يخطئ رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، حين يحاول الفصل بين الوزير جبران باسيل والعهد. ويخطئ أيضاً كل من يعتبر أن ما يقوم به باسيل، مهما تصاعدت حدته، محصور برغبته في الوصول إلى رئاسة الجمهورية. يتصرف باسيل بطريقة مدروسة غير اعتباطية، ويتصرف منتقدوه وكأنهم يصوّبون على ميشال عون، ليس الرئيس فحسب، بل عون الجنرال والمنفيّ والنائب، ومن ثَمّ الرئيس.يمكن العودة إلى الثمانينيات والتسعينيات وما قبل عام 2005 وما بعده، وقراءة تصريحات العماد ميشال عون، حين كان رئيساً للحكومة الانتقالية، وحين أصبح في المنفى، وبعد عودته إلى لبنان، نائباً ورئيساً لتكتل التغيير والإصلاح، ثم رئيساً للجمهورية. يقتفي باسيل خطى عون، عمه ورئيسه، خطوة خطوة. خرج عون من رحم المؤسسة العسكرية، لا بيت سياسياً، ولا وراثة عائلية تدعمه وتضعه في واجهة الحدث. خلق لنفسه زعامة، وحتى وراثة سياسية. الطريقة نفسها يمشي بها باسيل اليوم في مواجهة الإقطاعيات والزعامات السياسية المسيحية الوارثة إما أحزاباً كجعجع أو عائلات كالجميّل وفرنجية، وفي مواجهة زعامات إسلامية ناشئة أيضاً من بيئة سياسية حاضنة ووارثة لأحزاب وعائلات. لم يخرج باسيل من عائلة سياسية، لكنه ورث أسلوب عمه، في الخطابة وفي المعارك الكلامية التي لا تتوقف لحظة واحدة. لم يقل عون كلمة إلا وحرك فيها الشارع أو الطبقة السياسية، ولم يُلقِ خطاباً إلا وافتعل مشكلة أو فرض إيقاعاً مختلفاً. أسلوب عون يقتبسه باسيل حرفاً حرفاً، يقتفي أثره في استحداث المواجهات من دون ملل، وكأن طريقة عون الفجّة والمثيرة للشغب، عن خطأ أو صواب، أوصلته إلى حيث هو اليوم. ليس سهلاً مسار عون السياسي والعسكري، مهما كانت أخطاؤه وسلبياته أو إيجابياته. أي نظرة إلى تصريحات الثمانينيات، وخصوصاً لمن عايش تلك المرحلة، من غير الجيل العوني أو الباسيلي الجديد، يدرك تماماً أن النفحة هي ذاتها والمواجهة هي نفسها. يريد باسيل تحصيل «حقوق المسيحيين» في المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء وفي الإدارة. حينها تصبح رئاسة الجمهورية حقاً مكتسباً أو حتى تصبح إنجازاته أهم من الرئاسة في ذاتها. لكن تركيزه اليوم هو على هذا الواقع الذي يريد من خلاله أن يتحول صوتاً فريداً، لا يخشى استفزاز حلفائه أو خصومه، وأن يخلق لنفسه زعامة مهما كانت النتيجة. عون نفسه دفع ثمناً، هو المنفى، قبل أن يتحول مساره من باريس إلى بعبدا. وباسيل حين يستعيد مشاهد سبق لعون أن كان طرفاً فيها في بعبدا الثمانينيات والرابية بعد المنفى، إنما يؤكد استمراره في النهج ذاته. خصوصاً أنه اليوم ينطلق من أرضية سياسية أقوى من تلك التي انطلق منها عون. لكن يخطئ أيضاً من يعتقد أنه يستخدم العهد وكل أدواته كمنطلق، من دون أن يؤدي في المقابل دوره في حماية العهد وصيانته.
أي جردة واقعية تؤكد أنه لم يتحقق أي إنجاز للعهد، بصرف النظر عن الأسباب والتبريرات


فباسيل لا يحرق العهد، إنما يدافع عنه. حتى الآن لم يحقق العهد إنجازات بالمعنى الفعلي. قانون الانتخاب والموازنة المعلقة، هما واجبان لا منّة من أي حكومة أو عهد. ثمة إخفاقات حقيقية تتعلق بالوضع الداخلي، هي التي يفترض أن تكون سمة العهد، من معالجة التدهور الاقتصادي والاجتماعي إلى قضية النفايات والكهرباء إلى أزمة النازحين ومواجهة مشروع التوطين، وملف النفط. كل ذلك لم يسلك بعد طريقه إلى حلول عملية، وإن كانت الضجة حول هذه المواضيع كبيرة وكبيرة جداً. لكن عملياً، أي جردة واقعية تؤكد أنه لم يتحقق أي إنجاز للعهد، بصرف النظر عن الأسباب والتبريرات. في مقدور أي قوة سياسية أن تحمّل العهد القوي مسؤولية الإخفاق، على قدر تعليق الآمال عليه. لكن لا يحدث شيء من هذا. فمنذ أشهر لا نسمع إلا انتقادات ضد باسيل وحده. وهذا تماماً ما يقوم به عملياً بتحويل الأنظار عن العهد والتصويب عليه. يتحول باسيل، الذي ينسق خطواته جميعها مع عون، إلى محامي العهد، فيحرف عنه كل هجوم. لا أحد يسائل الرئيس، ولا طرف سياسياً يصوّب عليه، ولا أحد ينتقده أو يطالبه بشيء، إلا بإبعاد نفسه عن صهره. لا القوات ولا الحزب التقدمي الاشتراكي في عزّ مواجهته الأخيرة مع باسيل، رغم أن الاشتراكي يدرك أيضاً أن مواقف عون حازمة بقدر مواقف رئيس التيار الوطني. يمتص باسيل بذلك كل الصدمات عن العهد، وعن رئيس الجمهورية، من انهيار تفاهم معراب إلى تشكيل الحكومة والتعيينات، والهجومات الكلامية قبل الانتخابات وبعدها، وكل ما يرافق مواجهاته مع القوى السياسية. أصبح باسيل «قنبلة كلامية» و«فتنة متنقلة»، وأطلقت عليه أوصاف تماماً كما كان ينعت عون قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية. جولات باسيل ليست رئاسية، لأن مواطني عكار وبشري والجبل ليسوا واشنطن أو موسكو أو طهران، ولا حفلات العشاء والمباريات الرياضية والصور وحفلات الردح النيابي حوله، تصبّ في صندوق الاقتراع الرئاسي الذي لا يملك هو أو غيره مفتاحه. لكن كل جولة وكل مشكلة وكل كلام استفزازي، طائفي أو سياسي، يكرس دوره حامياً للعهد. ويخطئ من يعتقد أنّ ما يقوم به باسيل يجري بلا معرفة عون ومباركته.