جمهور سعد الحريري غير راض عن مشاركته في حكومة مع حزب الله. جمهور مسيحيي 14 آذار غير راض عن تنازلات غير ضرورية قدمها الحريري لمشاركة حزب الله. جمهور «القوات اللبنانية» يخشى انقلاباً يقوده الحريري بدل معركة كانوا يريدونها مع حزب الله. رئيس الجمهورية لا يسرّه التفاهم المفاجئ بين الحريري وحزب الله و... ميشال عون. أمله فقط بأن يكون التفاهم مستنداً الى عجز عن انتخاب رئيس جديد، فيكون البديل التمديد له.
نبيه بري ووليد جنبلاط فكّرا لو أن الحكومة تتيح تحجيم ميشال عون بعض الشيء. ومن يدور في فلكهما من مرشحين رئاسيين كانوا يفضّلون حكومة تقول بوضوح إن هناك انتخابات رئاسية أكيدة.
جمهور حزب الله مستاء من جلوس وزراء الحزب الى جانب أشرف ريفي ونهاد المشنوق. وجمهور 8 آذار، عموماً، كان يأمل بحكومة لا تضمّ من يعلن العداء لسوريا وللمقاومة.

جمهور ميشال عون لا يعرف ما الذي يعبّر عنه. ليس مسروراً بحكومة لا يتوقع منها تغييراً ولا إصلاحاً، لكنه يأمل أن تكون التسويات مدخلاً لتفاهم يعيد العماد عون الى قصر بعبدا... رئيساً. أما البقية الباقية من الجمهور المنتشر على جنبات الطرقات محتجاً، رافضاً، متضايقاً، عاطلاً من العمل، خاسراً لوظيفته، فاقداً لفرصة عمل حقيقية، غير موفّر لقسطه المدرسي أو الجامعي، فاقداً للأمان والأمن، ناقماً على كل من سرقه ونهب ثروته وحقوقه على مدى عقود، كل هؤلاء، يعبّرون عن إحباط غير مفهوم. كأنهم كانوا ينشدون التغيير الشامل في هذه اللحظة المأسوية التي يعيشها لبنان.
سنحتاج الى وقت ليس بقصير، لكنه وقت من دقائق قاسية وصعبة، حتى نتلّمس نتائج هذه التسوية السياسية التي أثمرت حكومة تمام سلام. ولكن، هل من دقيقة نأخذ فيها نفساً، ونناقش المحتجّين من جمهور المقاومة، ونسأل الآخرين من قوى رافضة للطبقة السياسية الحاكمة،
ماذا يريد جمهور المقاومة؟
يريد من حزب الله أن يمنع إسرائيل من التفكير في تهديد لبنان، وأن يعدّ العدة كاملة، ليس لمواجهة أي اعتداء، بل للدخول الى فلسطين محرراً.
يريد من حزب الله أن يخوض حرباً غير عادية في سوريا. يمنع سقوط بشار الاسد، ويمنع تمدّد الجهات التكفيرية على الارض السورية، ومواجهة تنظيم «القاعدة» بكل فروعه الجديدة في سوريا ولبنان. ويريدون من الحزب الانتقال الى العراق منعاً لعودة جماعة أميركا والسعودية اليه، ومدّ شعب البحرين بكل صنوف الدعم حتى يسقط حكم الطاغية هناك. ويريدون منه التأهب لمواجهة احتمال تعرض إيران لعدوان أميركي أو إسرائيلي. هم يريدون من الحزب أن يحطم الجدار دفعة واحدة. يريدون منه سبعين 7 أيار. يريدون منه خوض معركة في وجه المتشددين في طرابلس، ومحو أثر أحمد الأسير في صيدا، وإخراج تيار المستقبل من بيروت، وتطويع أهالي البقاعين الغربي والأوسط، ومحاصرة عرسال وإجبار أهلها على طرد السوريين منها. ويريدون منه، أيضاً، أن يوجه ضربات انتقامية أو وقائية ضد دول الخليج، وقطع العلاقة مع حركة حماس وكل الإخوان المسلمين في العالم العربي، ومناصرة يمنيين على يمنيين آخرين، وفتح قنوات اتصال مع أنصار القذافي لمقارعة حكم الناتو في ليبيا، ومساعدة السيسي في مصر، ومحاصرة الملك في الاردن، وتهديد العالم كله لمنع التعرض لرجل أعمال أو عامل أو موظف في أفريقيا، وإجبار الغرب كله على منع التعرض لأي نصير للمقاومة، أكان لبنانياً أم عربياً أم إسلامياً.
وفي لبنان، يريدون من الحزب قيادة ثورة التغيير الداخلي، واحتلال وسط بيروت، وإنجاز انقلاب في قيادة الدروز، وإطاحة سمير جعجع وصحبه من شخصيات 14 آذار، ومحاصرة الرئيس بري وإجباره على الخروج من الحكم، ودفع العماد عون الى التصرف كما يشاء الحزب حكومياً ونيابياً وسياسياً. ويريدون من الحزب إقامة بنية اقتصادية تشغيلية في كل مناطق نفوذه، وإنشاء جهاز لمكافحة المخدرات، وتوفير الكهرباء والمياه، ودعم انتفاضة لإنقاذ الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي، وتشكيل قوة سرية لقتل السارقين والمهربين والزعران في كل لبنان.
ومن بين من يحتجّ على الحكومة اليوم، موجّهاً نقده بالتحديد الى حزب الله، هناك فئة آتية من اليسار، أو من قواعد أحزاب ناصرية وقومية عربية وعلمانية، وهناك مجموعة متعصبة طائفياً ومذهبياً. وهناك، أيضاً، تجار لا يريدون المرور على الجمارك، ومهرّبو بضائع غير شرعية، وناس يريدون تقليد من سبق على السلطة لتمرير ما لا يسمح به القانون، وأن يتدخل الحزب لدى القضاء لإلغاء مذكرات توقيف، أو تنظيف سجلات عدلية، وألا يتدخل في عمل تجار المخدرات ومروّجيها، وأن يضغط على بلدياته لمنح تراخيص بناء غير شرعي، وتغطية عمليات تهرّب من الضرائب، ويريدون مرافقين وأسلحة ودعماً أمنياً وسياسياً.
هؤلاء، جميعاً، يريدون من حزب الله ألا يتدخل في حياتهم الخاصة، وأن يغلق مدارسه الدينية، وأن يموّل أنشطتهم السياسية والثقافية والاجتماعية والعائلية، وأن يدفع رواتب من يديرون أشغالهم الخاصة، وأن يسهل لهم صفقاتهم في الدولة، وأن يسحب مذكرات توقيف برامج الترفيه على أنواعها، وأن يترأس حلقات الدبكة والرقص حيث يجب، وأن يترك لهم إدارة البلديات ومجالس الاقضية، ويريدون منه الابتعاد عن مواقع السلطة وتركها لهم لأنهم أكثر خبرة في التعاطي مع بقية زعران البلد.
وفوق كل ذلك، يريدون منه أن يتولى، وحده، قيادة كل المعارك المباشرة، ودفع الدماء والمال والجهد، ويريدون منه القتال عنهم، والتفاوض عنهم، والتصدي عنهم، وأن يعيد ترتيب أحزابهم، وتنظيمها، ومدّها بالعون السياسي والاعلامي والأمني والمالي.
هم يريدون كل ذلك. لكن كيف...؟ لا يهم!
حسناً، ربما هي مناسبة لقول ما لن يعجب أحداً. ولكن، لا بد من قوله ودفعة واحدة.
هل الذين يحتجون من الجمهور يحاسبون حزب الله على ما يقوله محلّلو الشاشات الموتورة، التي تفتش عن شتّام يرفع نسب المشاهدة، ثم يتناقل المشاهدون أنفسهم بطولات من يتبارزون بياقاتهم البيضاء؟ هل يعتقد هؤلاء، فعلاً، أن «سعدنات» محمد سلام ونوفل ضو ونديم قطيش تعبّر حقيقة عن 14 آذار؟ وبالتالي، وجب مبارزتهم بصراخ تخصّصت به ثلّة من «بتوع نضال آخر زمن» ـــ أتجنّب تسميتهم احتراماً لتاريخ وذكريات جميلة ـــ فصار الجمهور الغاضب اليوم يريد محاسبة المقاومة انطلاقاً من كونها ـــ بحسب ما قاله لهم أصحاب الأصوات المرتفعة ـــ أسطورة بيدها مفاتيح الكون.
حزب الله ليس الله. وهو ليس قوة أسطورية قادرة على القيام بكل شيء، ولا هو جيشاً جراراً قادراً على خوض معارك العرب والمسلمين في كل الأمكنة، ولا هو حزباً يحتكر كل الطاقات التي يتنفس البلد من خلالها.
المقاومة قوة شديدة الفعالية من حيث النوع والكم. قوة محلية ذات بعد إقليمي واسع. هي تيار يمثل خط الحرية التي ينشدها أحرار كثر في هذا العالم. هي عنوان يجذب كل من يريد الاشياء الجميلة، ولم يعد يجدها في حزبه ولا في قبيلته ولا في طائفته ولا حتى في بلده.
ولأن المقاومة كذلك، تتصرف غالبية ساحقة ماحقة من دول العالم وحكوماته، وقطعان من المجانين العاملين تحت رايات إيديولوجية ودينية وفكرية، بعدائية مطلقة. كل هؤلاء يخوضون حرباً ضد المقاومة من دون توقف. يلاحقون طيفها في السياسة والأمن والاقتصاد والعمل والعلم. ينشطون ليل نهار لقتل قادتها وكوادرها وناشطيها. وليس أمراً عابراً أن في لبنان، هذا البلد الصغير، يجري العمل من دون توقف للتحريض عليها، وشيطنتها، وتصويرها على أنها مصدر الشرور.
ثم، هل ثمة من هو متنبّه الى أن حزب الله يملك من العمر ربع قرن فقط؟ هي مجرد ومضة في تجارب الشعوب والقوى الرائدة، ولا تكفي لبناء منظومة تتصدى لكل أولويات الناس. وفيه ناس لا يقدرون، وحدهم، على تولّي المسؤوليات كافة، ولا على متابعة الأمور كافة، ولا هم في حال تتيح لهم القيام بالمهمات عن أصحابها.
حزب الله يواجه، اليوم، الاختبار الأقسى. يواجه حرباً مثلثة الأضلاع: تآمر داخلي قائم جهاراً نهاراً. واستعداد إسرائيلي غير مسبوق لشن حرب إبادة. ونشاط تقوده كل استخبارات العالم انطلاقاً من سوريا لمحاصرته وخنقه.
حزب الله يعرف أن المعركة قاسية. وهو لا يهرب من الميدان. لكنه ليس بعشرة رؤوس وخمسين يداً.
عندما وافق حزب الله على الدخول في هذه الحكومة، لم يكن يقدم على أمر جديد. هو لم يهرب من حكومات الشراكة مع ألدّ خصومه من أهل البلد، حتى في ذروة الحرب الاسرائيلية عليه. وهو لن يهرب من هذه الشراكة حتى في ذروة الحرب التكفيرية ضده. وهو مسؤول عن النظر الى مصالح كل اللبنانيين، وليس الى مصالح فئة دون الآخرين. وعندما وافق، لم يتنازل عن شعاراته المركزية. هو لم يسلّم سلاح المقاومة، ولم يترك ساحة المعركة في سوريا، ولم يقبل بطعن حليفه ميشال عون ولا بتسليم البلاد للأميركيين والسعوديين وحلفائهم.
قوة حزب الله، بالنسبة إلى خصومه، ليست في عقيدته وأسرارها الإلهية، بل في واقعيته، وفي علميته، وفي تواضعه حيث يجب، وفي إدراكه طبيعة المعركة القائمة. قوته في وضوح الرؤية أمامه.
من لا يقدر على فهم هذه الأمور، له الحق في الاعتراض. لكنه في حال كان مخلصاً لمسيرة المقاومة، ليس عليه سوى منع الانفجار في وجهها، لا أن يستغل حكاية الحكومة للتعبير عن حنق وغضب من أمور أخرى. ومع ذلك، فلا المقاومة تقدر، ولا أحد يقدر، على منع المحتج، من تأطير الجمهور الغاضب، وأن يقوده نحو التغيير الشامل، حتى لو تطلب ذلك سحب الناس من صفوف حزب الله!
حكومة تمام سلام هذه هي حكومة الأمر الواقع الفعلية. هي الحكومة التي تعبّر عن حال البلد وانقساماته. هي الحكومة التي تقدم أوضح صورة عن موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. وهي الحكومة التي لا مجال لإنتاج أفضل منها في لبنان اليوم. ومن كان يشكو العقل الإقصائي لفريق 14 آذار، لا يكرر الأمر نفسه، إلا إذا قرر البعض أن يختار عن غالبية السنّة ممثليهم، وأن يفرض على قسم معتدّ به من المسيحيين أسماء وزرائه ونوابه. وهو إن فعل، فهو يقود واعياً أو غافلاً، نفسه والآخرين، صوب حرب أهلية طاحنة!
حزب الله على حق، وقيادته على حق، وفي هذه اللحظة كما في أوقات كثيرة، هي القيادة الأكثر عقلانية... إنها حقاً تمثّلني!