ليس غريباً ان ما يصيب مشروع قانون موازنة 2019 الآن، قبل الوصول الى مجلس النواب، هو نفسه ما اصاب عام 2017 قانون الانتخاب، وعام 2018 تأليف الحكومة الحالية. وهو سيصيب اي ملف آخر مماثل في اهميته في المرحلة المقبلة.في كل من المحطات الثلاث تلك، في السنوات الثلاث الاولى من العهد، لم يكن غريباً كذلك ان الكتل الرئيسية الممثلة في حكومة الرئيس سعد الحريري تظاهرت بالتأثر بعامل الوقت وضغوطه، وافتعلت ذرائع ارباكها بتقديم تنازلات. بيد ان الهدف الفعلي كان في مرمى آخر، هو سبل احراز افضل توافق على تلاقي مصالحها. فلا يخرج خاسر من بينها. في قانون الانتخاب وتأليف الحكومة، توخّت الكتل هذه المحافظة على توازن القوى نفسه، المنبثق من التسوية السياسية المبرمة في تشرين الاول 2016، على نحو يجعلها تمسك بزمام السلطة. مع هامش تقليدي دعائي اكثر منه جدياً، هو اظهار اكثر من تباين في الاراء وحيال الملفات في ما بين افرقائها.
في مشروع موازنة 2019، لم يكن المطلوب سوى تأكيد المؤكد: ادارة خزينة الدولة وضائقتها المعيشية والاقتصادية والنقدية بما لا يفلت الزمام من ايدي الكتل الرئيسية تلك التي يمثّل تضافرها مقدرة السلطة على الصمود والبقاء. جراء ذلك امكن الوصول الى الحلول السهلة، القليلة الكلفة على الكتل نفسها، من خلال فرض رسوم وضرائب واقتطاعات في القطاع العام، دونما مسّ القطاعات الأساسية المؤثرة في خفض العجز، لاسيما منها المرتبطة بالمرافق الاكثر اهداراً، والاكثر تعششاً للفساد فيها، والاكثر تظللاً بحماية المرجعيات النافذة في الحكم. من هذه ما يصحّ تسميته دويلات الاتصالات والنفط والجمارك والمرافئ والاملاك البحرية والنهرية، ناهيك بخدمة الدين العام والاجور الخيالية وايجارات المباني الرسمية، اضف فضيحة توظيف آلاف في الادارة. واللائحة لا تنتهي. للسبب نفسه الذي تمثّله مرجعياتها المختفية وراء تلك المنشآت، بقيت هذه المرافق في منأى عن الإصلاحات الجذرية والبنيوية.
ليست كل القطاعات هذه سوى المظهر الرئيسي لتولي الكتل الحاكمة، في السلطتين الاشتراعية والاجرائية، تمويل احزابها وعناصرها ونشاطاتها وامكاناتها من خلال مقدرات الدولة اللبنانية. ليست مفارقة ان وراء كل من الكتل الرئيسية الست احزاباً وتيارات هي التي تشكل المرجعية السياسية الفعلية للكتل تلك.
يتوخى تعويم سيدر اقتصاد لبنان إبقاءه «مستودعاً» للنازحين السوريين


شأن ما بدا مع اول انتخابات نيابية عام 2018 بعد ثلاثة قوانين تمديد بذرائع واهية، ثم ابصار حكومة الحريري النور في الشهر الثامن، يأتي الاعلان عن الموازنة كأنه انجاز غير مسبوق، مع ان ثمة الكثير ينتظرها في قصر بعبدا.
واقع الامر انه ليس كذلك، الا ان ثمة ما يتطلبه الاستعجال:
اولها، ان خفض العجز من 11،5% الى 7،6% لا يعدو كونه سوى رقم وهمي:
- تارة لأن الارقام الفعلية للعجز في الاشهر الستة الاولى من انفاق 2019 خارج الموازنة الجديدة، وتبعاً للقاعدة الاثنتي عشرية، ستكشف عن حقيقة مختلفة هي رقم آخر، لكنه حقيقي للعجز، يعيده الى ما كان عليه قبل الوصول الى الرقم الجديد الوهمي. لن يتمكن مجلس النواب من التصويت على موازنة 2019 قبل نهاية حزيران على الاقل، ما يشير الى ان الموازنة الجديدة لن تطبّق تقشّفها سوى على ما تبقى من الاشهر الستة الاخيرة.
- وطوراً لأن الرقم الجديد للعجز لا يشتمل على الاموال المترتبة على الدولة للمستشفيات بما يقارب اكثر من 300 مليون دولار، وللمتعهدين والمقاولين بما يقارب 400 مليون دولار، وأكثر منها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي...
ما يعنيه ذلك ان نصف الموازنة خارج الرقم المعلن للعجز، تالياً اين يقتضي ادراج النسبة الجديدة له (7،6%) في الموازنة الناقصة أم تلك المكتملة؟
ثانيها، لا ريب في ان جانباً من استعجال الحريري والكتل الوزارية النافذة اقرار الموازنة، مرتبط بتقديم براءة ذمة امام مؤتمر سيدر، بتأكيد انجاز موازنة متقشفة متضمنة اصلاحات اساسية. يفضي ذلك الى ولوج اولى مراحل وضع قرارات المؤتمر قيد التطبيق، وحصول لبنان على دفعة اولى من قروضه، تقدّر بملياري دولار. بذلك فإن ما آلت اليه الموازنة الجديدة، المتقشفة، ليس اكثر من اخفاء الاوساخ تحت السجادة، كي لا يبصرها مؤتمر المانحين.
ثالثها، رغم ان الموازنة الجديدة لن تقنع بالضرورة مؤتمر سيدر بإنجازاتها وإصلاحاتها، الا ان من غير الضروري ايضاً مقاربته اياها بسلبية كبيرة تعطّل موافقة مؤتمر باريس على ما تحقق في بيروت. اذذاك فإن اي قرار ايجابي ينبثق منه لن يعدو كونه سوى قرار سياسي لمحاولة تعويم الاقتصاد اللبناني قدر الامكان، ووقف انحداره. امر يتناقض حتماً مع القراءة العلمية المتأنية لفحوى الموازنة الجديدة واجراءاتها وارقامها الوهمية.
قد لا يكون المطلوب في هذا الوقت بالذات إعدام لبنان اقتصادياً ونقدياً، مقدار ما يبدو انه لا يزال حاجة اساسية للمجتمع الدولي، لهدف وحيد لا يخفيه المسؤولون اللبنانيون، وتحدّث عنه مراراً رئيس الجمهورية، وعبّر عن مخاوفه منه: ابقاء لبنان «مستودعاً» للنازحين السوريين الى ان يحين أوان حلّ مشكلتهم، وربما الى ما بعد حل المشكلة هذه دونما الخوض في عودتهم. تالياً يصبح «المستودع» مفيداً بغية تفادي موجة هجرة هؤلاء الى الدول الأوروبية التي تريد التخلص من عبئهم الاجتماعي عليه.
في ذلك مغزى ان مؤتمر سيدر «لن يتخلى عن لبنان». لكنه لن يصدّق ايضاً ان ما طلبه في نيسان 2018 هو نفسه ما خلصت اليه موازنة حكومة الحريري.