تتعامل غالبية القوى السياسية الممثلة في الحكومة على قاعدة أن الكلفة الأكبر لخفض عجز الموازنة يجب أن تكون على حساب موظفي القطاع العام. حتى اللحظة، لم يُطرح في النقاشات الدائرة بين ممثلي هذه القوى أي اقتراح جدي للبحث عن واردات إضافية، كإدخال تغيير جذري على النظام الضريبي. غالبية المقترحات تدور حول خفض الإنفاق. جميع نفقات الموازنة يمكن حصرها في أربعة «أبواب» رئيسية: خدمة الدين العام (نحو 32 في المئة)، وأجور الموظفين والمتقاعدين (نحو 36 في المئة) ودعم الكهرباء (نحو 11 في المئة)، والنفقات الاستثمارية والتشغيلية (نحو 19 في المئة). وأي خفض جدي في الإنفاق، بحسب الباحثين في كيفية إعداد الموازنة، ينبغي أن يكون على حساب خدمة الدين العام والأجور. وبما أن خدمة الدين العام تعني مباشرة أصحاب المصارف وكبار المودعين، تستسهل بعض القوى السياسية التركيز على الأجور والتقديمات الخاصة بموظفي القطاع العام، وخاصة العسكريين. وكان معروفاً أن أكثر المتحمسين لإجراءات «قاسية» كهذه هم الرئيس سعد الحريري وفريقه، ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل وفريقه. لكن الجديد الذي كشفته مصادر وزارية لـ«الأخبار»، انضمام وزير المال علي حسن خليل إلى مقترحي خفض الأجور والتقديمات للعاملين في القطاع العام والمتقاعدين، وبنسبة تصل إلى نحو 15 في المئة. وقالت مصادر وزارية لـ«الأخبار» إن اقتراح خفض أجور العاملين في القطاع العام وضعه وزير المال ضمن سلّة المقترحات التي أعدها، ونوقِشَت في الاجتماع الذي ضمّ رئيس مجلس النواب والحريري وخليل بعد الجلسة النيابية الأسبوع الفائت. ولفتت إلى أن من ضمن المقترحات أيضاً إجراء مصرف لبنان «هندسة مالية»، تتيح استبدال سندات دين بالليرة قيمتها نحو 10 آلاف مليار ليرة بأخرى فائدتها لا تتجاوز 1 في المئة.ويبدو أن الحريري وجد ضالته في هذا الاقتراح، فطرح مقايضة تتضمنها «سلّة» وزير المال، تنص على الآتي:
زيادة الضريبة على ربح الفوائد من 7% إلى 10%، وفرض هذه الضريبة على أرباح مصرف لبنان من الفوائد، ما يحقق زيادة في الإيرادات بقيمة تراوح بين 500 مليون دولار و750 مليون دولار سنوياً.
في المقابل، تخفيض أجور العاملين في القطاع العام بنسبة 15%، وتجميدها لمدّة 3 سنوات، وكذلك تخفيض معاشات التقاعد وحصرها بالمتقاعدين أنفسهم وزوجاتهم وأولادهم القصّر فقط، وحرمان كل المستفيدين الآخرين (البنات العازبات والوالدين وسواهما). وأيضاً تمديد سنّ التقاعد في الجيش والأجهزة الأمنية، وحصر علاوات التدبير رقم 3 بالذين يخدمون على الحدود والجبهات. بالإضافة إلى إلغاء المنح التعليمية وبعض التقديمات الأخرى، ولا سيما التي يستفيد منها موظفون في المؤسسات العامّة وصندوق الضمان الاجتماعي ومصرف لبنان. وقُدِّر أثر هذه الإجراءات بقيمة تراوح بين 900 مليون ومليار دولار.
هذه المقايضة طُرحت في الاجتماع الذي دعا إليه الحريري يوم الأحد الماضي، وحضره ممثلون عن جميع القوى السياسية المشاركة في الحكومة. وتفيد المعلومات بأن شق الضريبة على أرباح الفوائد حظي بقبول الجميع، أو على الأقل لم يعترض عليه أحد، إلا أن ممثلي حزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي كانوا مترددين في مناقشة الشق الثاني (خفض الرواتب والأجور). وبناءً على ذلك، اقتُرح إعفاء أول مليون ليرة من الراتب من اقتطاع الـ15%، بحجّة حماية أصحاب الأجور المتدنية وتخفيف حدّة الاقتطاع على الأجور المتوسطة، ولكن هذا الطرح لم يخفف من تردد المترددين الذين طلبوا المزيد من الوقت لدراسة الأمر.
وكان وزير المال قد عرض في بداية الاجتماع المذكور مشروع الموازنة لعام 2019، وفيه عجز يفوق 6 مليارات دولار، وأبلغ الحاضرين أن هذا العجز بقي مرتفعاً على الرغم من كل التخفيضات التي طاولت بنود الإنفاق المختلفة، بما في ذلك النفقات التشغيلية والاستثمارية والتحويلات إلى الجمعيات.
بعد هذا العرض، جرى التوافق على إجراء تخفيض إضافي للعجز ليصبح أقل من 4.5 مليارات دولار، أي تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات بقيمة لا تقلّ عن 1.5 مليار دولار في هذا العام. علماً أن مشروع وزارة المال تضمّن إنفاقاً بقيمة 15.8 مليار دولار (من دون الموازنات الملحقة)، بالإضافة إلى سلفة خزينة طويلة الأجل لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 1.6 مليار دولار، أي ما مجموعه 17.4 مليار دولار، في حين أن الإيرادات قدّرت بأقل من 12 مليار دولار. وكانت وزارة المال قد توصلت إلى هذا المشروع بعدما حذفت نحو 2.5 مليار دولار من النفقات التي طالبت بها الوزارات.
ينطوي مشروع وزير المال على تقشّف كبير ومؤذٍ، ولكن من دون أي تعديل في بنية الإنفاق العام ووجهاته، في حين أن المقايضة التي طرحها ورئيس الحكومة تهدف إلى إجراء تعديل كبير على حساب حصة العاملين في القطاع العام، إذ ترمي إلى تخفيض حصّة الأجور ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية من 36% إلى 30% من مجمل الإنفاق العام. وهذه النسبة من التخفيض تعدّ كبيرة جداً، ولا بد أن تترك تداعيات سلبية على مستوى معيشة نحو 300 ألف أسرة تعتاش من دخل أفرادها العاملين في القطاع العام والمتقاعدين. في المقابل، تطرح المقايضة تحميل المودعين قسطاً من كلفة تخفيض العجز، عبر رفع الضريبة على ربح الفوائد، إلا أن حصة مدفوعات الفائدة على الدين العام سترتفع من 32% إلى 34% من مجمل الإنفاق العام، وبالتالي سيعود توزّع الحصص إلى ما كان عليه على مدى ربع القرن الماضي، وتحديداً منذ نشوء أزمة الدَّين العام اعتباراً من عام 1997 حتى اليوم.
لا شك في أن رفع الضريبة على ربح الفوائد يشكّل خطوة متقدّمة ومفاجئة، ولكنها غير كافية لطمس التوزيع غير العادل وغير الكفوء للإنفاق العام ولكلفة تخفيض العجز، لمصلحة الدائنين على حساب الموظفين والمتقاعدين، وهذا يمثل سبباً كافياً للاعتراض على هذه المقايضة، ولا سيما أنه لا يزال في جعبة الحكومة خيارات ضريبية كثيرة يمكن أن ترفع الإيرادات أكثر بكثير مما هي عليه اليوم، ويمكن أن تقلّص كثيراً الكلفة الملقاة على عاتق الموظفين والعمال. وفي جعبتها أيضاً خيار خفض الفائدة على الدين العام القائم واسترداد الأموال التي جرى ضخها إلى أرباح المصارف عبر الهندسات المالية.