الرُّعب الذي يحكم قصور العدل غير مسبوق. قضاةٌ يرفضون البت بإخلاءات السبيل أو يتهيّبون إصدار قرارٍ ظني أو يتشددون في أحكامهم، خشية أن تطاولهم ضربة ما. أما الموظفون والمحامون، فليسوا بأفضل حال. اجتماعات هؤلاء تجري بحذرٍ أمني استثنائي. بعضهم يجتمعون مشترطين ترك هواتفهم في المنازل كي لا يكتشف فرع المعلومات أنّهم التقوا. كل هذا الرعب ناتج ممّا يُسمى «حملة مكافحة الفساد القضائي»، أي التحقيقات التي يجريها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي مع مشتبه في كونهم سماسرة في العدلية. وتؤدي تلك التحقيقات إلى تحرك التفتيش القضائي للتدقيق في محاضر فرع المعلومات التي تحيلها عليه النيابة العامة التمييزي.«لدينا نحو 530 قاضياً»، يقول مصدر قضائي مطّلع لـ«الأخبار»، «لكن نُسخ محاضر التحقيقات أتت على ذكر نحو 15 قاضياً فقط تدور بشأنهم شُبهات فساد، علماً بأنهم جميعاً لا يزالون يتمتعون بقرينة البراءة». يرى عدد من القضاة أنّ هذه الحالة التي تعيشها العدلية هي نتاج عدة عوامل، أحدها قصور التفتيش القضائي منذ سنوات. وينقل هؤلاء أنّ رئيس هيئة التفتيش يتحدّث دوماً عن نقص في عدد المفتشين. يستعيد أحدهم زمن القاضي طارق زيادة والقاضي عبد الباسط غندور اللذين ترأسا هيئة التفتيش. لم يكن لديهما عدد كبير من المفتشين، لكن حضورهما كان طاغياً. يتذكر قاضٍ قصة رواها رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق غالب غانم، أمام عدد من القضاة يوم استُدعي للتفتيش: «تفركشت وجيت لفك رقبتي من الرهبة والهيبة». يستدل قضاة بهذه القصة ليقولوا إن التفتيش لا يقوم بدوره حالياً. يعلق أحدهم: «ولا مرة استُدعي أحد من الصحافيين لسؤاله عن معلوماته لفتح تحقيق؟ كيف يُمكن صحافياً أن يعرف بارتكاب قاضٍ فيما التفتيش لا يعلم؟».
لماذا لا يرصد التفتيش الخلل في العمل الوظيفي؟ ومن يُحاسب التفتيش إذا لم يقم بواجبه؟ رئيس هيئة التفتيش محصّن بالقانون، إذ لا يمكن عزله إلا بموافقته هو، أو بإجماع كل من رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس مجلس شورى الدولة.
أحد القضاة يطرح مسألة أخرى، برأيه لا تقل أهمية عن عمل التفتيش. يقول: «أنا كقاضٍ، يفترض أن أكون من رأسي إلى أخمص قدمي محكوماً بالشفافية أكثر من غيري. لماذا يحتمي القاضي بالسرية المصرفية؟ القاضي يعني ثقة، والثقة لا تأتي إلا من الشفافية. لماذا أصلاً اعتُمدت السرية المصرفية؟ الهدف منها استقدام رساميل من الخارج والمودعين الأجانب لتشجيعهم على ايداع الأموال في مصارفنا. لماذا من يعمل في الشأن العام، يريد الاحتماء بالسرية المصرفية؟». ويسأل آخر: «لماذا لا يقدِّم القضاة كشفاً بحركة دخولهم وخروجهم والفنادق الفخمة التي ينزلون فيها وكيف يُبررون أنهم يُسافرون برفقة رجال أعمال؟».
برأي قضاة كثر، ستبقى العدلية محكومة بالرعب حتى أمد غير معلوم. ولن ينتشلها من ذلك سوى أخذ مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة التمييزية وهيئة التفتيش القضائي زمام المبادرة، لوضع أسس للمحاسبة، واقتراح تعديل القوانين الناظمة لعمل المؤسسة العدلية. وهنا يذكّر بعض القضاة بأن الأجهزة الأمنية هي «ضابطة عدلية»، أي أنها تعمل بإشراف القضاء. لكن ما يجري حالياً هو أن الهيئات العليا في القضاء تبدو متفرجة على واحد من أخطر الملفات التي يواجهها «سِلكها»، ليظهر القضاء متلقياً لما يقوم به جهاز أمني، ولو أن الأخير يعمل بإشارة النيابة العامة. المشكلة أن القضاء، برأي بعض أهله، «يقف متفرجاً ولا يعمل إلا وفق ردّ الفعل».