ولد جهاد عماد مغنية في عائلة تكاد تكون الأكثر معاناة خلال العقود الثلاثة الماضية من تعقيدات أمنية لعلها الاصعب لإنسان عادي شاء القدر أن يكون والده أسطورة غير عادية في تاريخ المقاومة. وجهاد، كما عائلته، عاش حياته في منازل كثيرة، تنقل بين مراكز الحزب وبيوت مؤقتة. وفكرة أن العائلة محكومة بالانتقال كل فترة قصيرة الى "منزل" أو مقر إقامة جديد، كانت ثابتاً لم يتغير مهما تبدلت الظروف الامنية. افتقد جهاد الحد الادنى من الاستقرار الذي تنعم به أي عائلة يوجد فيها أب وأم وأولاد؛ فجهاد الصبي لم ينهل من عطف الاب واهتمامه بشكل مشبع كحال أبناء جيله. لكنّ العارفين به يدركون أن هذه الظروف الاستثنائية، بل ربما النادرة، لم تنعكس سلباً على شخصيته التي خبرها أهله وأصدقاؤه وأهله ومحبّوه.
عاش جهاد محبّا للحياة، وعاشها بكل حلوها ولذتها

كانت الحاجة سعدى، والدة جهاد، تعوّض عن الغياب القسري للحاج عماد. أدركت باكراً حجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقها. جهّزت أولادها ليحملوا لواء شريكها الذي أفنى حياته خدمة لقضية آمن بها وعاش ورحل من أجلها. وكان الحاج عماد دائم التوصية لزوجته بجهاد، صغير العائلة، خاصة أن مسؤولياته الكبرى حالت دون أن يحظى جهاد بالكافي من وقته الذي ربما كان متيسراً أكثر لشقيقته وشقيقه.
الشاب الحيوي الذي عاش حياته كما العائلة خلف ستار أمني محكم، خرج الى الضوء حاملاً مشعل أبيه. للمرة الاولى، وفيما الآلاف يترقّبون ظهور بعض من إرث الحاج رضوان، أطلّ بصلابة أنْست الجموع للحظة أن الخطيب الذي لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره يتيم فقد والده وقائده. بصوت لا يزال صداه يتردّد في الاذهان، عصف قائلاً: أنا جهاد عماد مغنية...
جهاد الطالب هو ذاك المتفوق في الجامعة، ليس أكاديمياً فقط. هو المحبوب من الجميع، يجمع الاضداد في شخصيته، بين مشاكسة اليافعين وحكمة الناضجين. كان المحور بين رفاقه، قادراً على جمعهم الى كلمة سواء مهما اشتدت الظروف وكثرت التناقضات السياسية والثقافية والاجتماعية، والسلاح الفعال ابتسامة ودماثة خلق واندفاع.
جهاد آثر أن يترك الفصل الاخير في جامعته، لكي يلتحق بجامعته الأخرى، التي لطالما كانت غاية المنتهى بالنسبة اليه. لكن جهاد محبّ للحياة، وعاشها بكل حلوها ولذتها. تولت أخته الكبرى فاطمة متابعته ومراقبته. يستشيرها بما يجول في باله ويتعبه، وبما فعل، مخلّفاً بعض أخطاء بحثاً عن سبل المعالجة. فاطمة كانت تقدم له العون والمشورة، لكنها دائماً كان تنظر اليه كونه الأكثر شبهاً بوالده الشهيد.
كان حالماً ربما، لكن ظروف حياته وسماته الشخصية جعلته سابقاً لزمانه ولعمره، فلا تمر أمامه معلومة الا ويسأل عنها وعن تفاصيلها، والأهم من ذلك كيفية تطويرها وتطويعها خدمة لما يؤمن به.
هو الفذ الجميل صاحب الخدمات الصامتة. عائلته الصغرى، اكتشفت بعد رحيله بعضاً من أعمال كان يقوم بها بصمت، دون أن يعلم بها أحد، وبما يستطيع اليه سبيلاً.
كثيرة هي الحكايا عن ذاك الشاب الوسيم الممتلئ حياة وثورة. واضحاً هدفه أمام ناظريه كان، عمل على إنجازه قبل أن يسبقه اليه آخرون. استفاد من خبرة من هم أعلم منه. لم يتعب من المعرفة، كان ينهل منها كالعطشان المشتهي قطرة ماء. وعندما رحل، لم يحصل ذلك في شوارع المدينة ومقاهيها، بل في بقعة من بقاع الطوق. برحيله أعاد التذكير بأولويات بعض الشباب التي تراجعت بعد تحرير عام 2000 وانتصار 2006. جهاد رحل واقفاً. قتله عدوّ أعدّ هو نفسه لقتاله. رحل مشتاقاً إلى أبيه، علّه ينعم ببعض قرب منه عزّ عليه في الدنيا.
* صحافي من أسرة قناة "الميادين"