بعد أكثر من 38 عاماً على إعلان كيان العدو ضم الجولان السوري المحتل إلى «دولة إسرائيل»، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب امس اعترافه بـ«السيادة الإسرائيلية» على الهضبة المحتلة، رغم صدور قرار واضح من مجلس الامن برفض هذا الضم، والقرارات التي تطالب العدو بالانسحاب منها.بداية، لا بد من عدم الخلط بين توقيت اعلان له أهدافه السياسية الداخلية الاسرائيلية والاميركية، وبين أصل اتخاذ هذا القرار المرتبط بأكثر من سياق اقليمي، بدءاً من تلبية مطامع اسرائيل التاريخية والاستراتيجية، ومرورا بفشل مخطط اسقاط سوريا، وصولا الى كونه جزءا من مخطط «صفقة القرن» لشرعنة الاحتلال الصهيوني، وتحويله الى كيان طبيعي ضمن خارطة المنطقة.
في البعد التاريخي، يأتي القرار الاميركي نتيجة لمحطات التسوية التي توالت وعزّزت مكانة اسرائيل الاستراتيجية. من هذه الزاوية إن القرار، في أحد وجوهه، تتويج لكل محطات التسوية التي سبقته، بدءا من اتفاق كامب ديفيد، مروراً باتفاقيتي اوسلو ووادي عربة، وصولا الى قرار نقل السفارة الاميركية الى القدس العام الماضي.
على خط موازٍ، يلبي القرار مطلباً صهيونياً ملحاً منذ احتلال الجولان عام 1967، واعلان ضمه عام 1981. في حينه، لم تسلّم الدول العظمى، بما فيها الولايات المتحدة، بهذا القرار، وبقيت تتعامل مع الجولان على أنه ارض خاضعة لمفاوضات التسوية. وأتى القرار أيضاً في أعقاب مطالب اسرائيلية متكررة بدأت تأخذ منحى متصاعداً منذ بدء الاحداث السورية، وهو ما عبر عنه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة. والواقع أن ترامب لم يخف خلفية الاطماع الاسرائيلية بهذه المنطقة وما تتمتع به من مزايا، في التغريدة التي أعلن فيها موقفه بالقول، إن للجولان «أهمية إستراتيجية وأمنية حيوية لدولة إسرائيل والاستقرار الإقليمي!».
قرار ترامب هو الاعلان الاميركي الرسمي عن نهاية مسار المفاوضات


في ما يتعلق بالسياق المباشر، أعلِن القرار بعد الاندفاعة الخليجية - السعودية للتطبيع العلني مع كيان العدو، وبفعل ادراك تل ابيب وواشنطن أن الانظمة الخليجية ومعها أكثر الانظمة العربية، باتت أكثر نضوجاً للانتقال الى مرحلة العلاقات العلنية مع اسرائيل، من دون أي أثمان تتعلق بالارض كما كانت عليه المعادلة في تسعينيات القرن الماضي «الارض مقابل السلام». وهو ما لمسه العدو عملياً في أكثر من محطة سياسية وأمنية، من ضمنها الصمت الخليجي والعربي على التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية تحت غطاء التسوية، وعلى الاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة ضد قطاع غزة، وصولاً إلى «التسليم العربي» بقرار نقل السفارة الاميركية الى القدس.
ليس صدفة أن يأتي قرار ترامب في أجواء ما قبل الاعلان عن «صفقة القرن»، ما يؤكد أنها مخطط تنفيذي يُطبّق على مراحل. مع ذلك، ينبغي التذكير بحقيقة أن المخطط الأساسي كان يهدف اولا الى اسقاط سوريا، ثم محاولة فرض كافة الصيغ المتعلقة بالجولان وفلسطين. إلا أن فشل اسقاط سوريا، وصمود المقاومة في فلسطين، دفع بالاميركي والاسرائيلي الى المبادرة لفرض وقائع بشكل احادي. مع ذلك، الحقيقة الموازية أن قرار ترامب لا ينتج احتلالا، فالاحتلال قائم منذ عقود. لكنه يهدف الى شرعنته ودفع الاطراف الدولية والاقليمية والعربية للتعامل معه على أنه حقيقة ناجزة. إلا أن من أهم النتائج التي ستترتب على هذا القرار، هو الاعلان الاميركي الرسمي عن نهاية الرهان على أي مفاوضات تسوية بين الكيان الاسرائيلي ودمشق. وهو بذلك كمن يقول للدولة والشعب في سوريا، إن امامكم خيارين: إما أن تأتوا الى المفاوضات لاضفاء شرعية على فرض السيادة الاسرائيلية على الجولان، وإما أن ترفضوا هذا المسار (وهو الواقع في سوريا)، وبالتالي، لن يبقى أمامكم سوى خيار المقاومة لتحريره.
في المقابل، يشكل القرار الخطوة الاميركية الاستراتيجية الثالثة التي تقدم عليها ادارة ترامب لمصلحة اسرائيل، بعد نقل السفارة الى القدس والانقلاب على الاتفاق النووي مع ايران. وكما هو واضح، فإنها تأتي جميعها تلبية لمطالب اسرائيلية ملحة، وتحقيقا لمصالحها الاستراتيجية. ومن جهة أخرى، تشكل هذه الخطوات ايضا، تعزيزا لمنطق اليمين الاسرائيلي الذي يؤكد على الدوام أن اسرائيل لا تحتاج لتعزيز مكانتها الاقليمية والدولية الى تقديم تنازلات تتصل بالارض في سياق تسوية شاملة. لكن العامل الأساسي الذي يعود اليه الفضل في الترويج لنجاح هذا المنطق يعود الى المهرولين للتطبيع مع العدو ، واستعدادهم العلني لنسج علاقات وتحالفات من دون ربط ذلك بأي أرض عربية محتلة (على الاقل وفق منطق التسوية).
على مستوى التوقيت، من الواضح أن ترامب هدَفَ من الاعلان قبل أربعة أيام من زيارة نتنياهو الى البيت الابيض، وقبل أقل من 20 يوما من موعد الانتخابات الاسرائيلية، إلى تعزيز مكانة الأخير الذي يواجه استحقاقاً قضائيا يهدّد مستقبله. يحاول الرئيس الأميركي هنا مساعدة رئيس حكومة العدو على توفير حصانة سياسية وشعبية تحول دون ادانته وزجه في السجن، فضلا عن اسقاطه عن منصبه. وبدت جلية محاولة تقديم هذا الموقف كما لو أنه مكسب شخصي لنتنياهو في وجه خصومه. وما أعلنه نتنياهو في المؤتمر الصحافي مع وزير الخارجية الاميركي، مايك بومبيو، عن أن «الوقت حان للاعتراف الرسمي الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان»، كان، على ما يبدو، جزءاً من مسرحية الاخراج.
في المقابل، تؤكد كافة التقارير الاسرائيلية أن الخطوات التي أقدم عليها ترامب تساهم في تعزيز التفاف الجهات المؤيدة لاسرائيل حوله. وهو ما يحتاج إليه ايضا في ظل ما يواجهه من تحديات قضائية وسياسية في الداخل الأميركي.
و كما هو متوقع، لم يتأخر نتنياهو في التعبير عن فرحته بموقف ترامب، معبراً عن شكره له، ومشيدا «بجرأته». ولكن كما هي العادة، تحاول تل ابيب توظيف أي خطوة سياسية أو أمنية، بما يخدم أولوياتها الاستراتيجية. وعلى هذه الخلفية، يبدو أن ثمة خطة سياسية واعلامية برزت معالمها في المواقف الترحيبية بقرار ترامب، على ألسنة المسؤولين الاسرائيليين، عبر الربط بين القرار و«العدوانية الايرانية». نتنياهو رأى أن القرار أتى «في وقت تسعى إيران إلى استخدام سوريا كقاعدة لتدمير اسرائيل»، رغم أن هذا مطلب اسرائيلي منذ عقود، ويكرره نتنياهو منذ بدء الاحداث السورية من دون أي علاقة بالتمركز الايراني في سوريا. والامر نفسه ينسحب على موقف وزير الخارجية والاستخبارات، يسرائيل كاتس، الذي رأى أن «الإعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان يشكل رداً على العدوانية الإيرانية من سوريا ويبعث رسالة واضحة للأسد الذي يغطيها».
الموقف العربي الوحيد الذي اعلن رفضاً لقرار ترامب صدر عن الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط الذي توعّد بموقف حاسم للجامعة. موقفٌ لا يُتوقع ان يخرج من الإطار «الباهت» الذي سبق أن اظهرته الجامعة، ودولها الرئيسية، في محطات لم تكن تقل خطورة عن الاعتراف الأميركي بسيادة العدو على الجولان.