أصبح سليم جريصاتي صورة على جدار. ذاك الجدار الواسع في مكتب وزير العدل. أُضيفت صورته إلى قائمة صور الوزراء السابقين. سنوات، والله أعلم، وتُضاف صورة وزير العدل الجديد ألبرت سرحان. لم يكن سلفه، أي جريصاتي، قاضياً. كثيرون كان يُنادونه بالقاضي، وهو، لسببٍ ما، كان يروقه ذلك. كان محامياً، وفي مرحلة لاحقة عضواً في المجلس الدستوري، لكن ليس قاضياً. ألبرت سرحان كان قاضياً فعلاً. لم يمضِ على تقاعده سوى نحو سنة. هو اليوم الوزير الرقم 66 في وزارة العدل منذ عام 1920 (منذ لبنان الكبير). لم يعتد لقب «المعالي» بعد، إذ هو «الريّس» وسيظل هذا اللقب، بعد 40 عاماً مِن العمل القضائي، هو الأحبّ إليه.لعلّ سرحان هو الوزير الوحيد، في الحكومة الجديدة، الذي لا يحتاج إلى 100 يوم كفترة سماح. لا يحتاج إلى وقت ليعرف ما الذي تحتاج إليه الوزارة، أو ما ينتظره الناس مِن هذه الوزارة، إذ هو مِن أهلها ويعرف، إلى حدّ بعيد، ما الذي ينتظره. يقول: «كنتُ، وأنا القاضي، مستمعاً جيّداً لأوجاع الناس». التقيناه في الوزارة، أمس، قبيل مغيب الشمس. يبدو مهجوساً بمعضلة «تسريع عجلة العمل القضائي». تستفزه فكرة الانتظار الطويل للوصول إلى العدالة. برأيه، وهذا رأي شائع عالميّاً، أن «العدالة المتأخّرة هي بمثابة اللاعدالة». هذا ما يعد اللبنانيين بإنجازه. هذا أمر، منطقيّاً، مقدور عليه، وحلّه ليس متعلّقاً بحلّ «قضيّة الشرق الأوسط». بالمناسبة، ليست هي المرّة الأولى التي يُرفع فيها هذا الشعار في وزارة العدل. سيكون علينا أن نُراقب. ما يدعو إلى التفاؤل، نسبيّاً، أن الوزير الجديد لا يبدو مِن محبّي «الدفوع الشكليّة». لطالما أُهدِرت سنوات في تأخير العدالة تحت هذا العنوان القضائي ـــ الإجرائي. سيكون هناك سعي، في المرحلة المقبلة، لتعديلات قانونيّة في هذا الشأن. سيكون هناك مؤتمر وطني، نهاية الشهر الجاري، وبرعاية رئيس الجمهورية ميشال عون، لغاية «العدالة السريعة» تحديداً.
ماذا عن التدخّل السياسي في العمل القضائي؟ يبدو سرحان واقعيّاً إلى حدّ بعيد في مقاربة هذه المعضلة الأخرى: «شوف، لن تتوقّف المداخلات السياسيّة هذه، نحن مجتمع لديه هذه الثقافة، وهي مترسّخة. ليس بإمكان القاضي أن يمنع السياسي مِن محاولة التدخّل، لكن بإمكانه ألا يخضع لهذا التدخّل. علينا أن نُحصّن القاضي». يعرف الوزير الجديد كيف تجري الأمور، مِن واقع خبرته العمليّة، وهو نفسه كان يتلقّى محاولات تدخّليه، حتّى إنّ «البعض كان يُحاول أن يتدخّل قبل أن يكون هناك أوراق قانونيّة أو دعوى أصلاً، وذلك في محاولة للكسب المبكر». خلال المرحلة الماضية، لم تكن العلاقة بين وزير العدل السابق سليم جريصاتي ومجلس القضاء الأعلى على أحسن ما يُرام، بل وصلت أحياناً إلى التصادم عبر إصدار بيانات وبيانات مضادّة، إلى حد أن «فرض» جريصاتي على القضاة، كلّهم بلا استثناء، أن يلتزموا الصمت التام. لا يحبّذ سرحان، اليوم، التعليق على ما جرى، فهو يشكر الوزير السابق على جهوده، «لكن أنا لديّ طريقة مختلفة. أنا كنتُ قاضياً». بالمناسبة، يأتي سرحان مِن التيار السياسي نفسه الذي أتى مِنه سلفه، لكن لا يفوت الوزير الجديد أن يُشير إلى أنّه «ليس حزبيّاً». هو ليس منتمياً إلى التيّار الوطني الحرّ، بالمعنى التنظيمي، بل محسوب على «حصّة» رئيس الجمهورية ميشال عون في مجلس الوزراء.
لا يبدو أن لسرحان رأياً نهائياً في القانون المقترح لاستقلاليّة القضاء. الموضوع حاليّاً قيد البحث لدى لجنة الإدارة والعدل النيابيّة، وبالتالي فإنّ الأمر «مفتوح للنقاش». ليس متحمّساً لأن يجري انتخاب أعضاء الهيئات القضائيّة، كلّها، مِن قبل القضاة أنفسهم. يقول: «صحيح هذا موجود في دول أخرى، ولكن نعرف لبنان وخصوصيّته، ولا يُمكن إسقاط تجارب الآخرين كما هي على واقع لبنان. في بلدنا، لو حصلت انتخابات للقضاة، فمَن يضمن ألا تدخل السياسة مِن بابها العريض إلى قلب القضاء؟ قضاتنا هم أبناء هذا البلد، وهم آتون مِن مختلف الميول السياسيّة. الاقتراح الموضوع ينص على إدخال غير قضاة إلى مجلس القضاء الأعلى، ما الفكرة مِن ذلك عندنا في لبنان؟ نعم مِن الممكن إنشاء لجنة مِن الجميع، قضاة وغير قضاة، تكون مرافقة لمجلس القضاء الأعلى، كهيئة استشاريّة، وتشترك فيها المنظمات غير الحكومية مثلاً... عموماً أنا منفتح على كلّ نقاش». عندما يُقال هذا على لسان قاضٍ سابق، لا يكون الأمر عابراً.
لا يُحبّذ فكرة انتخاب القضاة في لبنان حاليّاً خوفاً مِن تفشّي الانقسامات السياسيّة داخل القضاء

لم يُعرف عنه، خلال عمله سابقاً، أيّ سابقة تسييس، بل كان، بحسب شهادات عدد مِن زملائه السابقين، بمثابة «القاضي الكلاسيكي». في الأيّام الأولى له في الوزارة، جمع «كبار» القضاة في مكتبه، وكان متحمّساً لفتح ما يُشبه «الخطّ الساخن» مع هيئة التفتيش القضائي. خلال أيّامه الأولى، أحال عدداً مِن الشكاوى إلى «التفتيش». يقول: «أنا لا أحب فكرة الترويج لعزل قضاة، وما يُحكى عن قطع رؤوس وما شاكل، ولكن في المقابل أنا لا أتهاون مع المسؤولين القضائيين. أعطيت للقضاة، في اجتماعي معهم، عهداً بألا أتدخّل في عملهم، ولكن سأكون دوماً حاضراً للفت نظرهم». يُلخّص هذه العلاقة وفق المعادلة الآتية: «تنظيم المرفق القضائي هو مهمة الوزارة، أمّا سير العمل القضائي فهو مِن اختصاص الهيئات القضائيّة».
لم يحصل أن كان ألبرت سرحان سياسيّاً. كان وليد جنبلاط رفيق صفّه في المدرسة، قبل نحو خمسين عاماً، في مدرسة الـ«آي سي». أحد الحقوقيين، الذين تتلمذوا عليه جامعيّاً، يصفه بـ«المرجع في القانون الإداري والقانون العام». قضى عمره المهني في مجلس شورى الدولة. إعلاميّاً، لم يظهر اسمه سابقاً إلا في مرحلة الطعون في الانتخابات البلديّة عام 2016. أحد المحامين الذين عرفوه، منذ نحو 30 عاماً، عبر الجامعة أيضاً، يقول عنه: «لديه طريقة مميزة في الشرح، عميق، وفي المقابل ليس لديه فوقيّة. أتمنّى أن يكون لديه فريق عمل متخصّص يُعاونه. مسؤوليّته كبيرة». سرحان يعرف جيّداً مسالك الفساد في لبنان. يقطع وعداً آخر على نفسه: «العدالة سوف تأخذ مجراها، سترون، لن يكون هناك أسماء كبيرة. سيذهب القضاء إلى أقصى ما يُمكن أن يصله، ثم عندما يكون هناك عقبة، سيُقال إن هناك عقبة. وزارة العدل ستكون رأس حربة في مكافحة الفساد».