بعيداً من معادلات الحكومة وتقسيماتها، ثمة واقع جديد أفرزته بوضوح تطورات الأيام والأسابيع الأخيرة، يتعلق بالعلاقة بين العهد وحزب الله. حتى الآن كان الكلام العلني يدور حول تباين في وجهات النظر، وخلافات في الرؤية لتشكيلة الحكومة، وانتقادات لحركة الوزير جبران باسيل بصفته مكلفاً من رئيس الجمهورية ميشال عون إدارة ملف الحكومة. لكن القضية تبدو أبعد من ذلك.الأكيد أن الرئيس عون ليس الرئيس ميشال سليمان، لجهة إدارته الشأن السياسي وعلاقته الاستراتيجية مع الحزب. وبهذا المعنى لا يمكن أن يعتقد الحزب أن عون هو الرئيس الذي يبدأ عهده معه بعلاقة جيدة وينتهي بخلاف بنيوي وسياسي واستراتيجي. لكن هذا لا يمنع أن العهد يريد أن يبدأ عهده فعلياً، وأن المفاوضات لتشكيل الحكومة باتت تدور حول نفسها، وأن المكاشفة يجب أن تبدأ لإطلاق مسيرة العهد. كما أنها ضرورية لتخفيف الجو الذي بدأ يسود في قواعد الطرفين، وسط كثرة الأسئلة المطروحة من جانب مؤيدي العهد،عن مغزى فرملة حلفائه له، من دون أي أسباب جوهرية أو مشكلات في العلاقة قد تكون وراء هذا التباين في وجهات النظر حول الحكومة، وهل أن الحزب فعلاً لا يريد إعطاء رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر 11 وزيراً.
وسط هذا الجو ظهرت ملاحظات كشفت عنها الأيام الأخيرة:
حادثة الجاهلية، وإن كان حزب الله ليس مسؤولاً عنها، لا بل أنه نجح في تقزيمها وسحب فتيل الفتنة فيها، أكدت وجود محاولة جدية لإحياء قوى 8 آذار بالإطار الفعلي. فالحزب مصر على تعويم سنة 8 آذار، في شكل لا يحمل التباسات، طالما أن الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله كان حاسماً في التمسك بتوزيرهم، ومعظمهم معروف بانتمائه إلى مرحلة سياسية يفترض أن تكون انتهت، ولو كان هؤلاء نواباً. ثم جاءت حادثة الجاهلية، لتؤكد أن إحياء عصبية 8 آذار ليست مجرد إشارات بل حقائق ملموسة. علماً أن عون قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، كان دائم الحرص على تمييز نفسه، بأنه ليس من قوى 8 آذار بل حليف لها. أما اليوم وفي ظل رئاسته للجمهورية فإن إحياء 8 آذار في الشكل الذي يصر الحزب عليه، يعني في المقابل عودة الاصطفافات السابقة بين 8 آذار وخصومها. وهم في هذه الحال حالياً رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وحلفائه. وعلى رغم أن قوى 14 آذار ليست اليوم في وارد استعادة واقعها السابق، إلا أن إحياء هذه العصبية مجدداً، لا يخدم العهد. لا سيما أنه أول من بادر إلى رفض توزير هؤلاء، وحرص في المقابل على تدوير الزوايا مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لرغبته في حكومة سريعة ومتوازنة. والسؤال لماذا تجميع كل هذه القوى، إذا كانت ثقة الحزب بالعهد الذي تربطه به صلات واضحة وعميقة، لا تزال في محلها. وتالياً لماذا يحتاج الحزب إلى جميع هؤلاء الحلفاء في حكومة ناتجة من توازنات سياسية وتفاهمات لم تُخرق ولم ينقلب عليها أحد، ويراهن العهد عليها والحزب والرئيس المكلف. أما ما يقال عن تسويات مع الحريري، وتسليفه مواقف عدة سواء حول رفض توزير سنة 8 آذار أو حادثة الجاهلية وغيرها الكثير، والغمز المستمر من علاقة الحريري ورئيس التيار، فهذا يجب وضعه في إطاره الصحيح لأنه يصب لمصلحة السير بحكومة سريعة، ولا يستهدف أي طرف وخصوصاً حزب الله، الذي عمل على تمتين علاقته مع الحريري نفسه، قبل أن تنفجر قضية سنة 8 آذار.
والعهد متضرر، لأن رئيس الجمهورية رفض علناً مطلباً للحزب، الذي للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بينهما، لم «يقف» على خاطر الرئيس، ولم يبادر إلى مكاشفة وتبيان الوضع، بل إن الأمين العام للحزب كان عالي النبرة في لقائه مع وزير الخارجية، تماماً كما كانت حاله في إطلالته التلفزيونية، واستمر في إصراره على توزير سنة 8 آذار.
وبين كل هذه التقاطعات، جاء لقاء المصالحة بين رئيس تيار المردة سليمان فرنجيه ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي لم يتم من دون مباركة حزب الله لفرنجيه. وبذلك يكون الحزب دخل إلى الساحة المسيحية عبر حلفائه، بعدما دخل إلى الساحة الدرزية، ويريد الدخول جدياً إلى عرين السنة، بحيث يتمسك بثنائية سنية تلغي تفرد الحريري بالزعامة السنية، وهذا أمر له دلالاته مستقبلياً.
تكثر الأسئلة حول رفض الحزب كل المبادرات المطروحة، وإصراره على توزير حلفائه، بعد ما أصر على وزارة الصحة، ويمعن في توجيه رسائل إلى الداخل والخارج، لأن تمسكه بإدارته ملف التشكيل، يفهم منه أيضاً أنه رسالة دولية بأن الحزب قادر على الإمساك بكل مفاصل البلد، في ظل وجود رئيس للجمهورية ورئيس مكلف، وفي خضم تطورات إقليمة ودولية ضاغطة على إيران والحزب على السواء.
أما هامش المناورة المحلية، فلا تصيب إلا العهد، الذي بات أمام خيار القبول بتوزير سنة 8 آذار من حصته، ما دام الحريري مصراً على عدم التنازل أكثر مما تنازل حتى الآن، وما دامت الصيغ المطروحة لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
كل ذلك يقود أخيراً إلى خلاصة لافتة، تتعلق بحيثية الحكومة المقبلة، فإذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه، وتجميع قوى 8 آذار بات أمراً واقعاً، فهذا يعني أن الحكومة، ستكون حكومة «صعبة» بالمعنى السياسي وحكومة مواجهات داخلية، لا تشبه الحكومة الحالية. وهذا سيضع حتماً الأفرقاء أمام تحدي اختيار ممثليهم، لأن القضية لم تعد مجرد حكومة وحدة وطنية تضم خبراء وتكنوقراط، بل هي حكومة سياسية، يفترض أن يتمثل فيها صقور السياسة، وقد بدأ البعض يراجع حساباته جدياً في شأنها.