نحو ثلاثة مليارات دولار مجموع الهبات التي صرفت من دون إجازة من الحكومة ومن دون أن تسجل في قيود وزارة المالية. ونحو 3.5 مليارات دولار هي قيمة سلفات الخزينة التي لم تسدد. وفي الحالتين، هذا يعني بأقل تقدير إعطاء صورة وهمية عن العجز في الموازنة عبر خفضه بآلاف مليارات الليرات. ليس ذلك سوى غيض من فيض ما أفرزته الحسابات التي تعدّ وزارة المالية التقرير النهائي بشأنها، والتي تؤكد أن كل الفوضى التي غرقت بها الوزارة خلال سنوات طويلة كانت ممنهجة وهدفها التعمية على الحقائق، تسهيلاً لإخفاء ما يُراد إخفاؤه.في 20 تشرين الأول المقبل تنتهي المهلة التي أعطاها مجلس النواب لإعداد الحسابات المالية للدولة منذ عام 1993. في العام الماضي، كانت هذه المهلة هي الحجة لتبرير مخالفة الدستور وإقرار موازنة 2017 من دون قطع الحساب. والحجة نفسها اعتمدت لتكرار المخالفة أثناء إقرار موازنة 2018 قبل أيام من مؤتمر سيدر الذي عقد في نيسان الماضي.
انتهت الحجج، ويفترض ألّا تقر موازنة 2019 من دون قطع الحساب، وهو ما أكدته أمس لجنة المال والموازنة النيابية. وبالفعل، يبدو أن وزارة المالية تتعامل مع المهلة على أنها كانت مهلة حثّ لإنجاز العمل الذي انكبت عليه منذ سنوات وشارف على النهاية. وهذا يعني عملياً طيّ صفحة ربع قرن من الحسابات غير الصحيحة وغير المدققة، وفي أحيان كثيرة غير المعدّة أصلاً. باختصار، صار للدولة اللبنانية حسابات مدققة، أسوة بكل الدول، بعدما كانت هذه الحسابات سائبة بكل معنى الكلمة.
كثيرة هي الملفات التي اكتشفت، وكثيرة هي المخالفات التي حولت إلى الهيئات الرقابية، والتي يفترض أن تبتّ بها. في ملفات كثيرة قد تقتصر المخالفة على أخطاء حسابية، وفي ملفات أخرى لا مجال للحديث عن حسن نية وإهمال. هنالك جرائم متعمدة كشفتها الحسابات، التي أهملت عن قصد، لتضييع الحقائق وإعطاء هوامش أكبر للتصرف بالمال العام من دون أي اعتبار للقوانين التي تحكم هذه العملية. محاسبياً، انتهت المعركة وصار كل شيء ظاهراً، لكن كيف سيكون التعامل مع ما كشف؟ الأكيد أن لمجلس النواب دوراً كبيراً في المرحلة المقبلة. هل سيحدد المسؤوليات كما هي، أم سينحو نحو التسويات السياسية، على طريقة عفا الله عما مضى؟ عملياً، لا بد من إجراء تسوية قانونية على الأقل في ما يتعلق بإجازات الصرف، لكن ذلك لا يعفي المخالفين من عواقب ما فعلوا، التي يصل بعضها إلى الجرائم الجزائية.
أول الغيث فضيحة تصفير حسابات الدخول لعام 1993 (اتخذ القرار في عام 1995). يتبين من خلال تحديد رصيد الحساب الجاري في المصرف أن ميزان الدخول لذلك العام كان بقيمة 152 مليار ليرة (تحديداً 152.970.348.003 ليرة). وهنا يبدو جلياً أنه لو اكتُفيَ بتسجيل القيد الظاهر في الحساب، لكانت الحسابات قد بُنيت على رقم أقرب إلى الدقة، بدل الصفر الذي سمح عملياً بإخفاء حقيقة الكثير من الأمور. أما الحديث في حينها عن صعوبة تحديد حساب الدخول، بسبب مرور نحو سنتين، فقد أثبت بطلانه وطرح أكثر من علامة استفهام، بعدما تمكنت دوائر وزارة المالية من تحديده بعد مرورة 21 عاماً (2014). وإذا كان المبرر حينها أن حسابات سنوات ما قبل 93 كانت مفقودة أو ضائعة أو تالفة، فلا سبب لفقدان الملفات بين 93 و96 (تبين لاحقاً أن معظمها رمي في مستودعات عشوائية أو أتلف في الحريق الذي طاول الوزارة في 96).

صار للدولة حسابات
الإنجاز تحقق، ليس في ما يتعلق بتحديد ميزان الدخول في 1993 فحسب، بل بإعادة تكوين كل حسابات الدولة (13 حساباً) وتحديد موازين الدخول لكل السنوات التي تلت. وهذا يفتح الباب على أسئلة من قبيل: لماذا جرت محاولات عديدة لإمرار تسوية للحسابات، من غالبية وزراء المالية المتعاقبين، وفي مقدمهم فؤاد السنيورة وريا الحسن؟ ولماذا كان الإيحاء دائماً أن التسوية ضرورة لأنّ من المستحيل إعداد الحسابات؟ هل كان القرار يقضي ببقاء البلد من دون محاسبة، وبالتالي تضييع كل الحقائق المالية؟
أبرز المحاولات وأشهرها تلك التي قامت بها الحسن، في 7 أيلول 2010. حينها أودعت رئاسة مجلس الوزراء مشروع قانون مؤلف من ورقة واحدة، وينص على قطع حساب السنوات الممتدة من 2006 ولغاية 2009 ضمناً. ظنت الحسن حينها أنها تستطيع أن تقونن الصرف المخالف للقانون، عبر جدول صغير وفقرة جاء فيها: «يعتبر جدول النفقات المرفق بمثابة قانون قطع حساب لتلك السنوات من دون أن يؤدي ذلك إلى إعفاء وزارة المالية من إعداد حساب المهمة لهذه السنوات».
من يسأل عن الأداة التي نفذت كارثة الحسابات يُحال رأساً على المركز المعلوماتي في وزارة المالية. ذلك المركز كان يتحكم بكل شاردة وواردة في الوزارة، وكان يضم عدداً كبيراً من العاملين على الساعة، الذين لا يخضعون للسلطة الإدارية في الوزارة ويتفوقون على موظفي الوزارة لناحية السلطة والتأثير. ببساطة لأنهم يوظفون من قبل الوزير مباشرة، الذي يحدد أيضاً تعويضاتهم ورواتبهم. أضف إلى أن مدير المركز لــــ17 عاماً كان مستشاراً للوزير. ونتيجة للأمر الواقع الذي فرضته الإدارة البديلة التي أنشئت، فقد انتزعت صلاحيات العديد من الموظفين لفترات طويلة، ومنهم رئيس المحاسبة (كان ممنوعاً من الوصول إلى الحسابات)، وحصرت جميعها في المركز الإلكتروني.

الإدارة الرديفة
عندما كشفت فضيحة الحسابات في لجنة المال والموازنة في عام 2010، قال المدير العام للوزارة ألان بيفاني كلاماً لا يزال يردده بعض أعضاء اللجنة حتى اليوم. بيفاني الذي تحدث حينها عن الإدارة الرديفة التي تحكم وزارة المالية خلافاً للقانون، مستمدة سلطتها من سلطة الوزير، كان قد أشار أيضاً إلى أن ثلاثة أرباع الإدارات سحبت منها وظائفها، ومنها مديرية الدين العام التي يقوم فريق استشاري بعملها، ومديرية الخزينة التي تُجرى حساباتها في الفريق الخاص في المركز الإلكتروني...
وقد أدت تلك الجلسة والفضائح التي كشفت فيها، إلى تحول عملية إعداد الحسابات إلى عملية ملحّة سياسياً، بعدما كانت الإدارة قد اتخذت قراراً بالسير بها. وقد أثبتت هذه العملية أول ما أثبتت أن العجز الفعلي في الموازنة يختلف عن العجز المعلن بآلاف المليارات، خاصة من خلال إخفاء النفقات الفعلية، وتحويلها حسابياً إلى سلفات، ولا سيما تلك التي كانت تعطى للهيئة العليا للإغاثة ولمجلس الإنماء والإعمار والتي لم يكن هنالك من إمكانية لردها، أو تلك السلفات التي كانت تُعطى لمؤسسة كهرباء لبنان وتُسجّل في حساب مؤقت للنفقات. وكانت النتيجة أن رصيد سلف الخزينة المعطاة بين عامي 1997 و2017 وغير المسددة حتى تاريخه تخطى الخمسة آلاف مليار ليرة. وهو ما يجب أن يُعتبر إنفاقاً من خارج الموازنة. كذلك، فإن نحو 2400 عملية محاسبية سجلت على الحساب الخطأ من أصل 10503 قيد من عام 1997 ولغاية 2010 (أي نحو ربع القيود سُجِّلَت على الحسابات غير المناسبة لها).
ولّى زمن «لا يمكن إعداد الحسابات»... فهل يأتي زمن المحاسبة؟


أما بشأن سلف الموازنة، فقد تبين أن جزءاً كبيراً منها لم يكن مسدداً، ربما لثقة المتلقي بأنها لن تظهر في الحسابات. والدليل على ذلك أنه بعد عام من الانتهاء من التدقيق في حسابات سلف الموازنة في عام 2013، حُصِّل نحو مليار ليرة، تمثّل جزءاً من سلف موازنة ممنوحة لقيّمين على السلف بين عامي 1997 و2010، ولم يبادروا إلى تسديدها. علماً أنه لم يُباشَر بعملية تحصيل هذه المبالغ إلا بعد انتهاء عملية التدقيق.
واللافت أيضاً أن ثمة سلفاً لا تزال عالقة بسبب طبيعة الإنفاق المرتبط بها. فعلى سبيل المثال، تبين أن وزيراً حصل على سلف موازنة لشراء مجوهرات وهدايا من المال العام. أما سبب شرائها عبر سلف موازنة، فيعود إلى النيّة لتضييع الحسابات والتصرف بالمال العام خارج إطار الرقابة.
وكما حساب السلفات، كذلك حساب الهبات، الذي تبين خلال السنوات الماضية أن 8 في المئة فقط من الهبات الصادر مراسيم بشأنها قد سجلت في حسابات الهبات، فيما لم يسجل 92% منها. كذلك قُبضَت هبات من دون صدور مراسيم لها كما تقتضيه القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، وقيمتها نحو 270 مليار ليرة (الهبة العمانية على سبيل المثال).
للتذكير، فقد أُحيل عدد من الهبات على النيابة العامة المالية، ولم يصدر بشأنها أي قرار بعد، ومنها هبتان من الاتحاد الأوروبي، الأولى بقيمة 30 مليون يورو، والثانية بقيمة 12 مليون يورو.

اختلاسات وتزوير
ولأن التسيّب كان سمة الحسابات المالية، فقد استسهل بعض الموظفين التصرف بالمال العام خلافاً للقانون. فقام، على سبيل المثال، بعض أمناء الصناديق بإقراض الأموال العمومية لقاء فائدة أو حتى إجراء صفقات تجارية ممولة من الأموال العمومية. كذلك استفاد المختلسون من تقطّع أوصال مراحل التدقيق، حيث لم يكن يُلاحَق أمين الصندوق الفرعي لتسديد يوميته في الصندوق الرئيسي، ومن ثم في مصرف لبنان. وهذا الأمر مثبت في قرار اتهامي لمحكمة جنايات بيروت.
كذلك ضبطت عمليات اختلاس في بعض الصناديق، وكذلك تبين أن معتمد قبض يقوم بإصدار عمليات قبض مزورة. وكشفت أيضاً شيكات مرتجعة استبدلت واستخدمت من قبل شخص غير الساحب. كذلك تبين وجود شيكات غير محصلة/ مفقودة بقيمة 640 مليون ليرة، أُعيد وضعها قيد التحصيل عام 2015 بعد التواصل مع المصارف التجارية التي أصدرتها. وتبين تسجيل قبض شيكات مرتجعة مرتين، ما أدى إلى تضخيم حساب الودائع الخاص بوزارة الشؤون الاجتماعية.
في ما يتعلق بالحوالات، تبين قيام أمين صندوق بعمليات اختلاس من طريق دفع حوالات بأكثر من قيمتها بقيمة إجمالية تخطت 2 مليار ليرة. كذلك كشف عملية إصدار حوالتين تحملان الرقم نفسه لصالح المديرية العامة للدفاع المدني، إحداهما بقيمة 19 مليار ليرة والثانية بقيمة 18 مليار ليرة. وفيما حوّلت القضية إلى النيابة العامة المالية، تدور الشكوك حول سببين: إما أنه جرى صرف الحوالتين، وبالتالي اختُلِسَت الأموال، أو أنها لم تصرف، ما يقود إلى السؤال عن سبب عدم إلغاء إحداها.
الإنجاز الذي سيُكشف عنه قريباً، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن كل ما قيل عن استحالة إعداد الحسابات لا يعني سوى أنه لم يكن هنالك نية لإعداد حسابات صحيحة. كذلك إن ضراوة المعركة التي حصلت لإعدادها تدل على أن الفريق الذي سيطر على الوزارة لسنوات طويلة لم يكن في وارد إعداد هذه الحسابات، وأن ثمة الكثير من الأمور التي لم يكن له أي مصلحة في إظهارها يوماً. وكل ذلك يوضح لماذا حُيِّدَت الإدارة الرسمية مقابل إعطاء أدوار مضخمة للمستشارين والعاملين على الساعة، ولماذا كانت الأولوية دائماً للسيطرة المطلقة على المركز المعلوماتي.



حسابات مدينة للقروض!
لم تكن البيانات المالية لوزارة المالية تعكس حجم الدين الفعلي بسبب عدد من الأخطاء أبرزها عدم تسجيل السحوبات والأصول المموّلة من طريق القروض. وهو السبب الذي أدّى إلى كون حسابات القروض مدينة. إذ تسجّل فقط عمليات التسديد. ومردّ ذلك إلى أن أموال السحوبات تُحوّل مباشرة إلى مجلس الإنماء والإعمار (أو في بعض الأحيان مباشرة إلى المقاول contractor المتعاقد مع مجلس الإنماء والإعمار) أو إلى الوحدة المنفذة في مشاريع الإدارات العامة. وفي المقابل، لم تلزم وزارة المالية تلك الجهات بآلية عمل تسمح بتسجيل الأصول التي حصلت عليها الحكومة والمموّلة من القروض.