تمتد شبكة «الدعم» على مساحة لبنان. أنشئت بالاستناد إلى حاجات معينة لدى شرائح محدّدة. على مرّ السنوات، أظهرت النتائج أن الدعم لا يصل إلى كل مستحقيه بل تستعمله قوى السلطة والمال كأداة للتطويع السياسي. الأكثر حاجة هم الأقل استفادة، والعكس صحيح. وبدلاً من تصحيح الخلل وربط الدعم بأهداف اقتصادية واجتماعية وزيادته، حيث يرتفع مستوى الحاجات، ظهر مطلب يتلطّى وراء الإصلاح، زاعماً أن الدعم مصدر للهدر يجب التقشّف فيه. مطلب يهدف إلى منع المحاسبة عن سارقي الدعم الذين اغتنوا من مال الشعب، وإبقاء الفقراء في مربع التطويع!نظام الدعم في لبنان يصيب الجميع بلا استثناء. لا يميّز بين فقير محتاج، وبين ثري مكتفٍ. عملياً، الأكثر استفادة هم الأكثر ثراء. لعلّه أمر مقصود. أن يكون النظام غير مبصر إلى هذه الدرجة. أن يعمل بفئوية. أن يكون أداة للتطويع السياسي. للزبائنية. لهذه الغايات كانت الـ «مزاريب». أبرزها الدعم المعلن في الموازنة العامة للكهرباء بقيمة ثلاثة مليارات دولار. تليها القروض المصرفية المدعومة من مصرف لبنان. كذلك، هناك الدعم المقنّع عبر المجالس والصناديق والمصالح المستقلة والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة، وصولاً إلى الإعفاءات الضريبية... نظام الدعم في لبنان ممتدّ أفقياً وعامودياً. غير مربوط بالخيارات الاستراتيجية، اقتصادياً واجتماعياً. يعمل بلا رقابة. يُراد له أن يبقى أداة تمويلية لممارسات الزبائنية السياسية. إصلاح نظام كهذا أمر ضروري. ليس المطلوب وقفه كما تطرح بعض المؤسسات الدولية. لا يمكن استبدال الدعم بالتقشف. لا يمكن ضرب الطبقة الوسطى بخطوة كهذه. المعضلة الأساسية أن يصل الدعم إلى مستحقيه بلا هدر. أن يكون محفِّزاً لتحقيق غايات اقتصادية أو إفادة فئات مهمّشة.

الميسورون الأكثر استفادة
ثمة الكثير من آليات الدعم في لبنان. بعضها معلن وبعضها مستتر أو مخفي. في مشروع موازنة 2018، يمكن رصد أكثر من 3 مليارات دولار مخصصة كمساعدات وعطاءات ومساهمات. يتوزّع هذا الدعم بين خدمات وسلع مختلفة. أبرز السلع المدعومة هي الكهرباء. فاتورة الكهرباء للمشتركين تصدر على أساس سعر برميل النفط 20 دولاراً. سعر الكلفة أعلى بكثير. اليوم يبلغ سعر برميل النفط 71 دولاراً. الفرق بينهما يسدّد من الخزينة العامة على شكل تحويلات أو مساهمات من وزارة المال. في موازنة 2018 رُصد مبلغ 2100 مليار ليرة لهذه الغاية. في سنوات سابقة كانت الكلفة أعلى من 3000 مليار ليرة. مجمل ما دُفع من الخزينة على دعم تعرفة الكهرباء يتجاوز 20 مليار دولار. هنا القصّة لا تتعلق بعدد ساعات التغذية. إنما الأمر محصور بكلفة الإنتاج وسعر المبيع. دعم الكهرباء يغطّي الفرق بين الكلفة الكبيرة والتعرفة المتدنية. التعرفة موزّعة على شطور. الشطور الأدنى للاستهلاك الأقل، والشطور الأعلى للاستهلاك الأكبر. لم يوضع سقف لدعم التعرفة. الكل يستفيد بقدر وتيرة استهلاكه للكهرباء. المساكن الصغيرة للفقراء ومتوسطي الدخل هي الأقل استهلاكاً. حصّتها من الدعم هي الأدنى. قصور الميسورين والأثرياء هي الأكثر استهلاكاً للكهرباء. حصّتها من الدعم هي الأكبر. كم هي حصّة الميسورين والأثرياء من دعم تعرفة الكهرباء. يجب أن يكون هناك فرق بين من يستهلك 100 كيلواط/ساعة شهرياً وبين من يستهلك 2000 كيلواط/ساعة شهرياً.

ميزة أم تمييز؟
نموذج آخر. وزارة الصحّة تدفع سنوياً نحو 450 مليار ليرة للمستشفيات التي تستقبل المرضى على حساب الوزارة. هؤلاء هم الذين ليس لديهم أي تغطية صحية سواء من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو من تعاونية موظفي الدولة أو الأجهزة الضامنة العسكرية أو أي صندوق رسمي ضامن. الاستشفاء على حساب الوزارة مقصد لمن ليست لديه تغطية صحية. لا لبس في هذا الأمر. مثل الكهرباء تماماً. من يملك المليارات وليس مسجلاً في أي صندوق ضامن، يمكنه الاستفادة. سنوياً هناك المئات من هذه الفئة التي تستفيد من المال العام إلى جانب فئات مهمّشة وفقيرة. الفئات الميسورة لديها النفوذ للحصول على خدمات وزارة الصحة سريعاً. أما المهمشون، فيقفون في طوابير طويلة للحصول على توقيع المسؤول في الوزارة. لا يقتصر عذابهم على ذلك. بعضهم يموت على أبواب المستشفيات لـ«الفوز» بهذه الخدمة.
ومن أشكال الدعم في قطاع الاستشفاء، أنه لدى وزارة الصحة برامج صحية مختلفة مع منظمة الصحة العالمية ومع جمعيات محلية وحملات تلقيح مختلفة ووهب الأعضاء وسواها. الكلفة الإجمالية لهذا النوع من الدعم، يبلغ 18 مليار ليرة.
قيمة القروض المدعومة منذ إقرار الدعم في 1997 حتى 2017 بلغت 20.4 مليار دولار


ومن نماذج الدعم، هي تلك المبالغ التي تدفعها الدولة اللبنانية من فاتورة ضمان المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. الدولة تدفع 25% من فاتورة الاستشفاء على حساب الصندوق. في عام 2018 رصدت الدولة مبلغ 442 مليار ليرة لتغطية مساهمتها في الضمان. تتضمن هذه المساهمة المرض والأمومة عن الفاتورة الإجمالية للمضمونين وفواتير المرض للسائقين العموميين وتعويضات عائلية للسائقين، وفواتير المخاتير وعجز الضمان الاختياري. للوهلة الأولى يبدو هذا الدعم صائباً، إلا أنه في الواقع يصيب، إلى جانب أصحاب الدخل المتوسط والمحدود، أصحاب كبار الدخل المسجلين في الضمان من كبار المدراء في المصارف وشركات التأمين والشركات الكبرى.

المصارف أولاً
المسار نفسه يتكرّر في القروض المصرفية المدعومة. هي نوعان. نوع مدعوم مباشرة من الخزينة وكلفته ملحوظة في الموازنة العامة. ونوع ثان يقوم به مصرف لبنان مباشرة عبر ميزانيته. مجمل قيمة القروض المدعومة منذ إقرار الدعم في 1997 حتى 2017 بلغ 20.4 مليار دولار.
بالنسبة إلى النوع الأول، فإن الدولة لحظت في 2018 مبلغ 180 مليار ليرة لدعم قروض استثمارية زراعية وصناعية وسياحية وتكنولوجية. تدفع الدولة الفرق بين أسعار الفوائد السوقية وبين أسعار الفائدة المدعومة. المقترض يحصل على قرض بفائدة متدنية، فيما المستفيد الفعلي هو المصرف. مبالغ الدعم تتقاضاها المصارف. محفظة التسليفات التي تستفيد من دعم الدولة بلغت في نهاية 2017 نحو 7.3 مليار دولار. أما مجمل الكلفة التي سددت من الخزينة العامة في مجال هذا الدعم فهي تزيد على 1.5 مليار دولار.
النوع الثاني من دعم القروض مصدره مصرف لبنان. مجمل قيمة القروض المدعومة من البنك المركزي بلغت 13 مليار دولار. تتوزّع هذه القروض على قطاعات السياحة والصناعة والزراعة والتكنولوجيا والتعليم والسكن، والبيئة وغيرها. الدعم عبر مصرف لبنان بدأ قبل نحو عشر سنوات. آلياته مختلفة. في غالبيتها تخضع لشروط وقواعد معقّدة تقنياً. توجد آليتان: خفض الاحتياط الإلزامي، قروض مصرف لبنان للمصارف.
مجمل قيمة القروض المدعومة بواسطة خفض الاحتياط الإلزامي بلغت 7.9 مليار دولار. كان مفروضاً على المصارف أن تضع هذه المبالغ كودائع احتياطية لدى مصرف لبنان بفائدة تتراوح بين صفر و1%. أتاح لها المصرف المركزي تحرير ما يوازيها وأكثر (بين 60% و150% من قيمتها)، مقابل تسليفها في السوق بفائدة لا تتجاوز 5%. نسبة المبلغ المحرّر مرتبطة بنوع القرض. الفرق بين المبالغ المحرّرة والمبالغ الاحتياطية، أصبحت أرباحاً للمصارف لا تقلّ عن 300 مليون دولار.
أما القروض التي استفادت من الرزم التحفيزية حتى نهاية عام 2017 فقد بلغت 5.2 مليار دولار. كلفة الدعم الذي صبّ في أرباح المصارف، تزيد على 200 مليون دولار.

قروض بلا نظر
من ضمن آليتي الاحتياط الإلزامي وقروض مصرف لبنان للمصارف، استحوذت القروض السكنية على مبلغ 9.8 مليار دولار. من أصل هذا المبلغ هناك قروض مرّت عبر المؤسسة العامة للإسكان بقيمة 2.4 مليار دولار. قروض المؤسسة العامة هي القروض التي يشترط ألا تزيد عن 270 مليون ليرة للقرض الواحد، أي التي يستطيع تحمّلها محدودو الدخل. ما يعني أن محدودي الدخل هم الأقل استفادة. حصّتهم من دعم القروض السكنية تبلغ 25% كحد أقصى من مجمل القروض السكنية المدعومة. أكثر من 7 مليارات ونصف المليار دولار ذهبت لتمويل جيوب الميسورين من الطبقات المتوسطة والثرية. بعض رجال الأعمال حصل على قروض مدعومة بملايين الدولارات. بعض الشركات، اشترت أراضي وأنشات مباني عليها للأبناء والأقارب بقروض مدعومة. في الفترة الأولى من دعم مصرف لبنان لم يكن هناك سقف للقروض السكنية. لاحقاً وضع مصرف لبنان سقفاً للقروض بقيمة 800 مليون ليرة، ثم رفعه إلى 1200 مليون ليرة. المستفيدون لم يكونوا محدودي الدخل، بل الشركات الكبرى والميسورين. هناك نموذج فاقع عن هذا الأمر. في الأسابيع الأولى من السنة الجارية، حين لم تكن أزمة القروض السكنية متفجرة بعد، بيعت عشر شقق بقيمة 1.8 مليون دولار لكل منها في المبنى المنشأ مقابل فندق البريستول غرباً والمملوك من بهاء الحريري. الصفقات العشر هذه كانت مموّلة بقروض من مصرف لبنان!

جبهة الامتيازات
نموذج جديد. ثمة قسم لا بأس به من الدعم يدفع عبر وزارة الزراعة. يصنّف هذا الدعم ضمن برامج تطوير وشراء أدوات زراعية وأدوية بيطرية وشتول وأسمدة وسواها. كلفته تصل إلى 14 مليار ليرة. يستفيد من هذا الدعم صغار المزارعين وكبارهم على حدّ سواء. كبار المزارعين هم أصحاب الحصّة الأكبر. وهذا الأمر ينطبق على دعم الشمندر السكري، ودعم القمح والشعير…
حصّة المزارعين لا تقتصر على ذلك. هناك أيضاً دعم التبغ. هذا الدعم لا يمرّ عبر الخزينة العامة، بل يمرّ مباشرة من خلال ميزانية إدارة حصر التبغ والتنباك. في السنة الماضية اشترت الإدارة من المزارعين تبغاً بقيمة 88 مليار ليرة، وباعت بقيمة 37.5 مليار ليرة منه، أي أن دعم التبغ بلغ 50.5 مليار ليرة. يتوزّع هذا الدعم على أصحاب الامتيازات. هم أصحاب الرخص التي نالوها من الإدارة وعددها 457 رخصة، ثم يأتي المزارعون في الدرجة الثانية وعددهم 24 ألف مزارع. أصحاب الرخص يتحكّمون بالمزارعين ويسمحون لهم بزراعة الشتلة المدعومة مقابل مبالغ مقطوعة. يحصلون على الأموال من دون أي كلفة إضافية.

الخبز و«التعليم المجاني»
بحسب تقارير منجزة في وزارة المال فإنه بين عام 2007 و2011 سدّدت الحكومة اللبنانية دعماً للخبز العربي بقيمة 129 مليار ليرة. تغيرت آلية دعم الخبز مراراً. السبب يعود إلى تناتشها بين أصحاب الأفران وأصحاب المطاحن. هاتان الفئتان استفادتا على حساب المستهلك.
الدعم في مجال التعليم والتربية أيضاً. يرصد سنوياً في وزارة التربية مبلغ لدعم ما يسمى «مدارس مجانية». في عام 2018 رصدت الدولة 115 مليار ليرة لهذه المدارس. هي أصلاً تعمل بموجب تراخيص أو امتيازات يمكن تأجيرها. اللافت هو التهافت على تأجيرها. أمر مثير للشكوك. الكل يرغب في الغرف من الدعم. صحيح أن التلامذة مستفيدون وهم وحدهم من يستحق هذا الدعم، إلا أن تأجير التراخيص أو الامتيازات مفيد للتجار أيضاً. هم يتنعمون بأموال الفقراء.

واجهات للفساد
دعم المجتمع المدني والرياضي هو أيضاً أمر مذهل. تحصل الجميعات الرياضية والثقافية وسواها على حصّة كبيرة من الدعم. الدولة تدفع أكثر من 320 مليار ليرة لهيئات لا تتوخى الربح «جمعيات المجتمع المدني»، وعطاءات إلى جهات خاصة بقيمة 190 مليار ليرة. بعض هذه الجمعيات يستحق الحصول على الدعم نظراً إلى كونه يقدّم خدمات للمصلحة العامة، فيما بعضها الآخر ليس سوى واجهة للفساد السياسي الذي يعمل على اقتناص المال العام من خلال تأسيس جمعيات تعمل لمصالح ضيقة أو جمعيات تقوم بأعمال وهمية. يظهر هذا الأمر بوضوح في الجمعيات الرياضية والجمعيات المرؤوسة من زوجات الرؤساء والوزارء والنواب…

عام 2018 رصدت الدولة 115 مليار ليرة لدعم «المدارس المجانية»


هذا بعض مما هو معلن عن الدعم المباشر في لبنان. هناك دعم مستتر تحصل عليه الشركات في القطاع الخاص من خلال إعفاءات ضريبية أو تسهيلات أخرى تتعلق بتأسيس الشركات وتسجيلها. وهناك دعم آخر بالمعنى نفسه، أي دعم مستتر منصوص عليه قانوناً يتعلق بمنح الشركات أفضلية التهرب الضريبي مثل انتقال ملكية العقارات عبر تحويلها إلى شركات مساهمة تنتقل الأسهم من شخص إلى آخر من دون المرور بالتسجيل المباشر والرسوم المفروضة عليه.
التهرب الضريبي صار أصلاً أحد ركائز العمل الوزاري. تسعى الدولة إلى المساواة بين من يدفع الضريبة في وقتها وبين من يتأخر. فهي مرة تصدر قرارات أو قوانين أو مراسيم لتسوية المخالفات أو للإعفاء من الغرامات… لا بل بلغت الوقاحة في هذا المجال أن تعمل الحكومة ومجلس النواب من أجل إصدار قانون يجيز إجراء تسوية على أصل الضريبة لا الغرامات فقط. وقد تحوّل هذا السلوك إلى نمط سنوي بما يجعله أقرب إلى العرف القانوني منه إلى الاستثناء المفروض بموجب ظروف موضوعية محدّدة. فعلى سبيل المثال، يصدر سنوياً إعفاء عن تسديد الغرامات المتعلقة بالبلديات والميكانيك وضريبة الدخل وضريبة الأملاك المبنية وسواها.
ومن أحد أهم أشكال الدعم المخفي، هو ذلك المال الذي تحوّله الحكومة إلى المجالس والصناديق. هناك قسم من هذه المبالغ يذهب إلى مشاريع ذات مردود سياسي انتخابي، أو ذات بعد طائفي مذهبي ومناطقي. الأنكى من ذلك، أن هذه الصناديق غير خاضعة لأي نوع من أنواع الرقابة. هي لا تخضع لديوان المحاسبة ولا يمكن إخضاع موظفيها للتفتيش المركزي ولا لمجلس الخدمة المدنية والهيئة العليا للتأديب… في بعض السنوات أنفقت هذه المجالس والصناديق على مشاريع غير معروفة أكثر من مليار دولار. وبحسب مصادر مطلعة، فإن الفجوة الأكبر موجودة في مجلسي الجنوب والهيئة العليا للإغاثة.