يقول أحد المسؤولين العونيين في مجلس خاص، وبارتياح ظاهر: حتى لو بقي العهد من دون حكومة لمدة أربعة أعوام، فلا مشكلة لدينا، لأننا لا نريد أن ننكسر أو نتراجع. كان يمكن لأي سياسي أن يقفز فوق هذه العبارة، لولا كلام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منذ أن غادر لبنان الى ستراسبورغ، ورسم خلاله معالم المرحلة المقبلة حكومياً. طبعاً ستكون مبالغة سياسية أن يقبل رئيس الجمهورية بعهد من دون حكومة، لكن عون يتصرف فعلاً لا قولاً وحسب، وكأنه غير مستعجل في اتخاذ خطوات حاسمة في اتجاه التأليف، وخصوصاً انه اتجه الى تحديد موقعه بوضوح في المعادلة الحكومية، كطرف سياسي، إضافة الى موقعه الرئاسي. وهو ينطلق من ثابتتين: أولاً، أنه ليس في وارد أن يتخلى عن صلاحياته في تشكيل الحكومة، والتي تشمل، إضافة الى الحق الدستوري، حقه في حصة وزارية وفي تحديد أحجام الكتل الأخرى. وثانياً، أنه لن يتخلى عن كونه مؤسس التيار الوطني الحر وأباه الروحي، وراسم مستقبله السياسي، وهذا يفترض به أن يكون رأس الحربة في تعبيد الطريق أمام خليفته، من خلال الحكومة. وفي الأمرين، ينتظر، كما درجت عليه عادته في الانتظار.
في المقابل، يقوم رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بالأمر نفسه، من زاوية مختلفة. حدد الحريري أيضاً موقعه، رافضاً التخلي عن صلاحياته مدعوماً من شارعه ومن الحرس القديم والجديد، معبراً، لأول مرة بهذا الوضوح، بواسطة كتلة المستقبل عن مآخذه ومآخذ طرفين أساسيين في النقاش الحكومي، أي الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. لكن الحريري يريد أن يتخطى عقبة الإشكالات والتأليف المتعثر، رافضاً أن تأكل من رصيده، فيما هو ينتظر الإفراج إقليمياً ودولياً عن حكومته المنتظرة. في خلال أيام قليلة، وضع الحريري معالم حيثيته السياسية في شكل جليّ: الذهاب الى لاهاي لا يعني مطلقاً الدخول في مواجهة مع حزب الله، لا بل إنه حرص على التمييز بدقة بين الأمرين. فالمحكمة الدولية وقراراتها لا تعني التخلي عن الحكومة وعن شراكته الحكومية مع حزب الله. أما ما سيحصل لاحقاً من تبعات لها علاقة بقرار المحكمة، فيتركه هو أيضاً للمستقبل.
وعدم موافقة رئيس الجمهورية على التشكيلة التي رفعها إليه، لا تعني أيضاً أن الحريري سينكفئ عن الاستمرار في مشاورات التأليف. ولكن الأهم، أن ينكفئ عن دوره كرئيس لحكومة تصريف أعمال، مستفيداً من تجارب كثيرة مر بها لبنان في حكومات مماثلة. وهذه المرة على ما يبدو يريد أيضاً الإفادة الى الحد الأقصى من الصلاحيات المعطاة له، علماً بأنه حرص في المقابل على تذكير الوزراء بمحدودية صلاحياتهم في تصريف الأعمال ووجوب الالتزام بالقانون.
لكن ما يصح على الوزراء لا يصح على رئيس الحكومة، الذي يعرف أن لا فراغ حكومياً، كما هي حال الفراغ الرئاسي. لذا يستعد لعودته الى السرايا، في شكل كامل، وليس لدواع استثنائية كما يحصل حالياً، أسوة بمن سبقوه من رؤساء حكومات تصريف الأعمال. وهو يستعجل العودة إليها قبل جلسات التشريع النيابية كي لا تفسر الجلسات على أنها تستهدفه، تماماً كما يصر الرئيس نبيه بري على عقد جلسات تشريع، بالتنسيق مع الحريري، فلا يفسرها أي طرف على أنها تستهدفه. والاثنان على توافق تام حول هذه النقطة.
يعود الحريري الى السرايا لعقد اجتماعات عمل وزارية واستئناف نشاطه كرئيس للحكومة «المستقيلة»، وفي مفكرته تفعيل الاجتماعات الوزارية في ملفات ضرورية. فبعد ملف النازحين السوريين، وملف أزمة المطار، سينتقل الى اجتماعات تتعلق بالأوضاع المعيشية كالنفايات التي عادت لتطرح بقوة على الطاولة بعدما عادت لتنتشر في شوارع بعض المدن والقرى، الى الكهرباء واشتداد وتيرة التقنين في معظم المناطق، بقوة تعادل قوة تصريحات وزير الطاقة، الأمر الذي اضطر كتلة الوفاء للمقاومة إلى مقاربة الموضوع علناً.
الاشتباك الإداري بين الاشتراكي والعهد والتيار مرشح للتصعيد أكثر حكومياً


وعودة الحريري الى السرايا تعني أمراً وحيداً، أن لا حكومة في الأمد المنظور، طالما أن المعنيين لا يزالون على مواقفهم، بخلاف كل الاجتهادات والتسريبات. القوات اللبنانية مصرة على الحقائب الأربع التي أتت ثماراً لمسار التفاوض الطويل بينها وبين الرؤساء الثلاثة، وأي كلام عن تراجعها لا يعنيها من قريب أو بعيد، وهي أوقفت التفاوض عند الحد الذي وصلت إليه خلاصة المفاوضات معها، ولا تنازل عن الحصص التي تعتبرها حقاً لها. ولا يقل موقف الاشتراكي حدة عن موقف القوات، وخصوصاً بعد الاشتباك الإداري بين الحزب والعهد والتيار معاً، وما كان يمكن أن يذلل بينهما قبل التطور الأخير، مرشح للتصعيد أكثر حكومياً. ويتعزز هذان الموقفان بتغطية غير مباشرة من الرئيس نبيه بري، الذي يذهب بدوره الى التشريع في ظل حكومة مستقيلة، بتوافق بين الرؤساء الثلاثة، تحت وطأة الحاجة الى إقرار قوانين مالية، رغم كل النقاشات الدستورية حول جواز أو عدم جواز التشريع في ظل حكومة مستقيلة.
من هنا، يطل العهد على سنته الثالثة، بما انتهى إليه عهد الرئيس ميشال سليمان، حكومة تصريف أعمال طويلة الأمد استمرت منذ استقالة الرئيس نجيب ميقاتي في آذار عام 2013 وحتى تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام في شباط عام 2014، ومجلس نيابي يقوم بدوره. وفي هذه المشهدية السوداوية، وفي ظل تدهور اقتصادي وخضّات اجتماعية وبيئية وأزمات تربوية يقبل عليها اللبنانيون، يصرّ رئيس الجمهورية على أن كل ما يقال هو تشويش على العهد.