ليس حبّاً بذكر المجازر، لذاتها، وليس بدافع مِن مازوشيّة جماعيّة، كما ليس أنساً بانكسار لتأبيده... بل، وببساطة، لأنّ تلك الأشياء حصلت، ثم طُمِست أو تكاد. لأنّ ذاك الكيان، الإسرائيلي، الداخل اليوم في «صفقة عصر» لكسب شرعيّة، أخلاقيّة وأشياء أخرى، هو مَن فعل تلك المجازر، ولم يتنصّل مِنها... هذا إن كان للسيف أن يتنصّل مِن غمده. لأنّ هناك مِن ولد وشبّ على حياة، هنا، ولم يُحط بتلك الفظاعات علماً. لأنّ القاتل، الذي خرج عنده مَن أرّخ لأفعاله، نسبيّاً، فيما كان القتيل يُلملم ما بقي مِن حياة، ثم يُهمَل مِمّن أؤتمن على تلك الحياة. لأنّ هناك مَن قصّر، وهناك مَن استسهل، وهناك مَن ضحك أو بكى ورحل. لكلّ ذلك، وأكثر، نورد اليوم حكايات بعض تلك المجازر، على ضحالة ما في الأرشيف، فضلاً عن شحيح الذاكرة الشفويّة، بعد طول المدّة، ليعرف مَن لا يَعرف، اليوم، وليَعرف مَن سيأتي بعدنا، غداً، أنّ ذلك حصل، بعض مِمّا حصل، في تموز وأقرانه من أشهر وأيام وسنين وعقود.الشهداء الثلاثة والعشرون الذين سقطوا من أبناء مروحين في مجزرة موكب النازحين في 15 تموز 2006، لم يكونوا أول الشهداء و لا آخرهم. قبل 29 عاماً، وفي تموز أيضاً، كان موعد المجزرة مع يارين. وبين المجزرتين، لطالما ثأر المحتل من شعب قرى الشعب، من الانتداب الفرنسي إلى الاحتلال الإسرائيلي. 
في الثاني من تموز عام 1977، ارتكبت إسرائيل و عملاؤها مجزرة في حقول وأزقة يارين استشهد فيها 18 من أبناء يارين والبستان ومروحين. طرد أهالي يارين ودمرت بيوتهم. جفت اليوم دماء شهداء مجزرتي مروحين ويارين والتأمت جراح الناجين. لكن الدولة لا تريد للأحياء تناسي ما جرى. قرى الشعب الحدودية المحررة من الاحتلال، لم تتحرر من التهميش والحرمان. معظم أصحاب البيوت المدمرة لم يحصلوا على تعويضات لإعادة إعمار منازلهم. بقيت أطلالها حتى الآن بمثابة شاهد على مجزرة مضاعفة.
 لم تشعر هذه الدولة بالذنب، بل إنها غالت في نكء الجرح مجدداً بعد مجزرة مروحين. لا يزال موسى سيف على قيد الحياة (89 عاماً). يظن البعض أن الله يبقيه شاهداً حيّاً، ليس على إجرام العدو فقط، بل على تعسف السلطة. بترت رجله وفقد سمعه وخسر زوجته فوزية أبو هدلا وشقيقتها لطيفة، واستشهد 21 من أقربائه من آل غنام والعبدالله الذين حاولوا الهرب في سيارة و«بيك أب»، إذ قصفتهم بارجة إسرائيلية لحظة وصولهم إلى مفترق بلدة شمع.
بعد محاولات مضنية، وافق القضاء على العفو عن موسى بعدما اتُّهم بادعاء إصابته للحصول على تعويضات في مجلس الجنوب، وحصرت التهمة بابنه علي. في الخامس عشر من تموز 2006، قرر الأخير مغادرة مروحين، حمايةً لوالديه وأطفاله من الموت الآتي من مواقع العدو المقابلة على بعد مئات الأمتار ومن زحف جنوده ودباباتهم. لم يحسب أن الموت ينتظره على الطرقات. «كنا نرفع حاجياتنا كرايات بيضاء على سطح السيارتين. قصفتهما بارجة إسرائيلية بقذائف حارقة أذابت ملامح وجه أمي وحولت أقربائي إلى أشلاء ورماد. أنا ووالدي وخالتي اتخذنا وضعية الموتى بعد استهدافنا من الجو، فيما زوجتي وطفلي وزينب ولارا ومروى العبدالله هرعوا إلى شمع لطلب العون». العون تأخر لساعات بسبب منع العدو سيارات الإسعاف من الاقتراب من موقع المجزرة. تأخر لم يسمح لخالته لطيفة بالصمود. استشهدت متأثرة بحروقها. رفعت الجثث ودفنت كوديعة في صور حتى 25 آب (حين دفنت في ثرى مروحين)، إلا والدة علي، فوزية التي صار صعباً نزع بقايا جثتها من هيكل السيارة الذائب. بعد انتهاء العدوان ذهب ليبحث عنها. وجد لوحة فوق التراب كتب عليها بالعبرية «توجد امرأة». هذه «المرأة» لم تكن إلا أمه.
لارا ومروى، ابنتاه، تقيمان في بيروت. لكن علي وأسرته وزينب يجاورون الذكرى. في الطريق إلى صور، يمرون بالفجيعة وفي الطريق إلى بنت جبيل، يمرون بمقرّ الوحدة الغانية في «اليونيفيل» التي رفضت طلبهم بالاحتماء بعلمها، ما اضطرهم إلى التوجه نحو صور. بلدية شمع حاولت تلوين الموت. بالتعاون مع «اليونيفيل» نفسها، أنشأت حديقة للأطفال فيها أراجيح وألعاب. لكن الموت كان أقوى. سرعان ما أهملت ونبت العشب فيها.

يارين: البيوت المدمرة شواهد قبور 
الموت الطري الرابض لأهل مروحين على طريق شمع أو رامية، يربض بين البيوت في يارين. في الحارة القديمة، تنتصب البيوت المدمرة منذ تموز 1977، كشواهد قبور يابسة. يستذكر محمود خلف (75 عاماً) أنه في الثاني من تموز كان الأهالي منتشرين في حقول التبغ والقمح. كان واحداً منهم في محلة الكسايا. سمع إطلاق رصاص كثيف. ركض باتجاه الصوت فشاهد عناصر يرتدون زي حزب الكتائب. أعدموا الراعي خالد عكاشة وأحد ذوي الاحتياجات الخاصة فارس الخليل والمزارعة وضحة دياب. «سمعت صوتاً ينادي عبر مكبرات الصوت باللهجة اللبنانية: أطلقوا النار على كل ما يتحرك من بشر وبقر. دسست جسدي بين سنابل القمح. فكرت في أن أهرب باتجاه الموقع الإسرائيلي وأسلّم نفسي للعدو». يشرد قليلاً، ثم يقول: «العدو أهون من عملائه». بعد وقت، تسلل نحو وسط يارين. شاهد جثث مزارعين ملقاة في الحقول، مصابة بطلقات نارية. في الأزقة، شاهد جيراناً وأقارب قتلوا حرقاً برمي مادة البنزين عليهم. «جهنم وفتحت علينا. مقاتلون نعرف بعضهم، هاجمونا راجلين من القرى المحيطة. هم يطلقون الرصاص والموقع الإسرائيلي المقابل يقصفنا بالمدفعية». لم تستوعب أم حسين الصدمة عندما رأت نحو 300 مسلح «فلتوا علينا وأمرونا بمغادرة يارين فوراً. ركضت حافية من دون جلب أغراضي. منعونا من الالتفات خلفنا. عملوا فينا مثلما فعلت عصابات الهاغاناه بالفلسطينيين». 
الشاهد على المجزرة حسن إسماعيل (81 عاماً) ابن الزلوطية يقول إن «الشيف إدوار قاد الهجوم على يارين مع مسؤول القطاع الغربي في جيش سعد حداد سامي الشدياق وجوج زعتر. 300 عنصر من الكتائب أتوا من شرقي بيروت عبر البحر إلى ميناء حيفا ثم إلى يارين حيث تكالبوا مع إسرائيل علينا». بعد سنوات، اكتشف إسماعيل والأهالي أن «الشيف إدوار» كان الوزير السابق إيلي حبيقة.
بعد تهجير الأهالي، أغار الطيران المعادي على البيوت في يارين والبستان. في يارين وحدها دُمِّر نحو 300 منها. أما أصحابها، فقد تفرقوا بين لبنان والمهجر. حتى عام 1983، بقيت البلدة مهجورة. العدو جرف بعض البيوت والحقول في يارين والزلوطية وحوّلها إلى ساحات تدريب ورماية لجنوده وعملائه. بعد 1983، عاد عدد قليل من كبار السن. 
(الأخبار)

«خوديلك شي شعيرة»
«إذا سقطت يارين سقطت كل جبهة قرى الشعب»، يقول حسن إسماعيل ابن الزلوطية. لم يكن الهجوم عليها دون سواها وتهجير أهلها، من قبيل الصدفة. هجوم فرّغ المنطقة التي امتهنت رفض المحتل منذ الانتداب الفرنسي. يارين كانت عاصمة قرى الشعب، ليس لكبر مساحتها وكثافة سكانها بالمقارنة مع جاراتها الضهيرة والبستان ومروحين، بل لأن أبناءها انضووا باكراً في الأحزاب والقوى الوطنية والقومية والأممية. في هذه البلدة النائية، وجد جيش لبنان العربي وأحزاب الحركة الوطنية وحركة القوميين العرب وفصائل المقاومة الفلسطينية بيئة حاضنة. تحولت يارين إلى مقر قيادة المقاومة الفلسطينية في القطاع الغربي.
يعرض أحمد خلف (83 عاماً) لائحة طويلة من أبطال الذاكرة الجماعية. نمر الياسين من بلدة الضهيرة تصدى عام 1920 للطائرات الحربية الفرنسية. امتشق بندقية الصيد وصوبها نحو الطائرة. «خوديلك حبة شعيرة» قال للطائرة التي أجابته بقذائف استهدفت الخيمة التي يسكن فيها مع أقربائه الذين استشهد منهم ثلاثة. في الثلاثينيات، تعاون أبناء القرى على تسهيل مرور الثوار العرب نحو فلسطين لقتال العصابات اليهودية والجيش الإنكليزي المحتل. نكبة عام 1948 أصابت القرى المرتبطة اقتصادياً واجتماعياً بقرى فلسطين المحتلة المحاذية. طربيخا، إحدى القرى السبع، الممتدة في خراج مروحين، صار اسمها مستوطنة زرعيت، فيما تلاشت قريتا النبي روبين و سروح. 
ذهب علي يبحث عن والدته فوجد لوحة فوق التراب كتب عليها بالعبرية «توجد امرأة». هذه «المرأة» لم تكن سوى أمه


المناوشات مع العصابات الصهيونية قبل النكبة، تحولت اعتداءات بعدها. عام 1950، قتل العدو حسين وفاضل العوض  في طربيخا. بعده بثماني سنوات، وفي المكان ذاته، قتل محمد الساري (كان برفقة العوض) ونمر عبيد. عام 1955، تسللت قوة من الجيش إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بمعاونة أحد أبناء الضهيرة أحمد أبو ساري، وقتلت ضابطاً صهيونياً. بعد أسبوع، نسف العدو منزل أبو ساري وقتل 10 من عائلته.
كبر الحساب بين العدو وقرى الشعب التي انبرت لحماية حدودها والتصدي للاعتداءات الصهيونية. حراسات ليلية وعمليات فدائية، منها عملية حسين علي رمضان من كتيبة أبطال العودة في حركة القوميين العرب داخل فلسطين المحتلة عام 1956. جرح واعتقل وأفرج عنه عام 1972 بعملية تبادل للأسرى. لم يتورع العدو عن إرسال قوات كوماندوس عبثت قتلاً وخطفاً ونسفاً للبيوت في قرى الشعب. منها خطف مدير المدرسة عطا أبو دلة عام 1973 بسبب مناصرته للمقاومة الفلسطينية قبل أن يُغتال في منزله الذي قصف. ومن لم يخطفه العدو، اقتادته الشعبة الثانية (استخبارات الجيش اللبناني) «بتهمة التعامل مع الفلسطينيين»!
«كان الحلم الأساس هو تحرير فلسطين»، يقول أحمد خلف. صار للحلم الأساس حلم فرعي متمثل بحماية القرى من الاعتداءات الصهيونية وتجاوزات عناصر وقيادات بعض الفصائل الفلسطينية. قبل عام 1977، تشكلت لجان من أبناء الضهيرة والناقورة وعلما الشعب ويارين لتحييد المنطقة عن العمل العسكري الصهيوني. خلف كان عضواً في لجان التفاوض غير المباشر التي فشلت بسبب رفض أهالي قرى الشعب تحييدها مقابل حمايتها من «المخربين»، أي الفدائيين وفق وصف العدو وعملائه. تحول عمل اللجان إلى مواجهة التطبيع مع العدو ورفض دخول العملاء إليها والتمسك بنصرة القضية الفلسطينية. «الرد كان بمجزرة يارين والتهجير». 



«انسوا التعويضات»
هنا نصب لشهداء يارين، وهناك شارع لشهداء البستان وما بينهما شارع لجمال عبد الناصر وآخر للرئيس رفيق الحريري. شوارع صغيرة مثقلة بأسمائها. لا يبدد هيئتها المهملة سوى الزفت الذي فرشته الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار لبنان التي عبدت الطريق الرئيسية بين البلدات كجزء من مشروع تأهيل الخط الحدودي جنوباً. قوات اليونيفيل تركت بصمات تنموية خجولة. أما دول الخليج كقطر والإمارات والسعودية، فقد تركت بصمتها على الحجر. بناء وترميم قاعات ودور بلدية. ماذا عن البشر؟ في مسيرة تشييع شهداء مجزرة مروحين في 25 آب 2006، استحوذ تيار المستقبل على قسم من النعوش وحركة أمل استحوذت على قسم آخر. 
أما بعد التشييع، فقد أعلنت السعودية تبنيها لمروحين بسبب المجزرة. الخطوة لم تعد إعلاناً شفوياً. «طلعنا لا من هنا ولا من هناك. لا مملكة الخير قبضتنا ولا الدولة تذكرتنا»، قال خلف. الأداء السعودي ذكّر الأهالي بأداء الدولة بعد مجزرة يارين عام 1977. بعد المجزرة بعام واحد، قدم مجلس الجنوب تعويضات لكل عائلة نازحة بقيمة 5 آلاف ليرة بعد أن أعلنت حكومة الرئيس سليم الحص يارين بلدة منكوبة. لكن أصحاب البيوت المدمرة لم يصلهم أي تعويض لإعادة بناء منازلهم وترميمها. من بين 300، حصل 42 منهم على تعويضات. «الفقر كان غالباً على الأهالي. بعد عودتهم، لم يتمكنوا من إعادة بنائها على نفقتهم الخاصة»، يقول أحمد خلف. يقرّ بفضل الجيش اللبناني في بناء أربعة ملاجئ عام 1969 لإيواء الأهالي من القصف الإسرائيلي المتكرر. «الحكومة خضعت حينها لضغط الحركة الطلابية اليسارية لدعم القرى الحدودية الأمامية».