تحقق في ٧ أيار ما أطلقنا عليها، في مقالنا بجريدة «الأخبار» في ٢٠ نيسان 2018، «صدمة المستقبل»، أو بكل بساطة ان «سكرة» الانتخابات التي حفلت بكل أنواع البهلوانيات التي نشهدها عادة في السيرك، قد انتهى مفعولها وحان اليوم أوان «الفكرة».وكما في كل صحوة بعد سكرة، يسود نوع من الهذيان، بانتظار الصحوة الكاملة. ومن المظاهر الأولية للهذيان حال الضياع التي سادت أوساط النواب المستقلين الذين فوجئوا بأنهم تحرروا من سطوة الكتل الكبيرة، وهم الذين لم يتعودوا أن يقول لهم ناخبوهم: «أنتم أحرار، وقد منحناكم ثقتنا لأننا آمنا بكم، فاذهبوا الى مجلس النواب واثبتوا أنكم أهل لهذه الثقة بطرح المسائل التي اعتبرتموها حيوية بالنسبة إلينا، ودافعوا عنها».
ولعل أبلغ آثار السكرة و«زوغانها» تجاهل الزلزال الذي أحدثه النظام الانتخابي النسبي في بنية مجلس النواب، إذ لم يكن أحد، قبل ٦ أيار، يتصوَّر أن يجدد المجلس نفسه بنفسه وبنسبة تقرب من ثلثي عدد نوابه. وكان هناك يأس من إمكان «التخلص» من طبقة سياسية تربعت على عرش السلطة عقوداً جراء إقصائها من فاز بـ٤٩ في المئة من الأصوات وعزله وتهميشه، وقد نسب اليها كل أنواع الفساد، وكان من الصعب في ظل النظام الأكثري المتوحش إرسال هؤلاء الى منازلهم وهم الذين يحظون بأعلى الرواتب، كما يتمتعون بأرفع الضمانات والتسهيلات والتعويضات التي ترافق تقاعدهم ويفيد منها جميع أفراد ذريتهم لسنوات وسنوات.
إلا أن السكرة حققت ما لم يكن متوقعاً، أو متصوّراً، وإن في الحلم، فتوارى عن الأنظار ٧٩ نائباً، ولم يبق من نواب المجلس القديم سوى ٤٩ نائباً، أكثر من نصفهم لدى الثنائي الشيعي لاعتبارات لها علاقة بالمقاومة أكثر من أي اعتبار آخر. وهذا التغيير في بنية المجلس نادراً ما نشهده، بهذه النسبة، في أي مجلس.
ولكن بدل أن تحاول الكتل، ومعها المستقلون، أخذ العبر من امتحان أوّلي لنظام انتخابي جديد قام أساساً، من أجل ضمان حسن التمثيل وعدالته، على تفكيك الكتل الكبيرة التي قام عليها النظام الأكثري القديم، نرى أركان بعض هذه الكتل يحاولون إعادة تكوين كتلهم في مواجهة العهد الذي لم يبدأ بعد، من طريق استمالة المستقلين الضائعين، الذين يبحثون عن مظلات تحميهم، في وقت يحتاج فيه مجتمعنا الى مقاربات جديدة بعد تحرر الصوت الانتخابي وساد التنوع، سواء في الترشح أو الاقتراع.
إننا نحذّر من إعادة إنتاج أكثريات مزيفة، وندعو الأقليات التي أنتجتها الانتخابات الى الدفاع عن نفسها وإيجاد قواسم في ما بينها بحيث يكون لها دور في تطوير النظام اللبناني بكسر المركزية والتوجه نحو اللامركزية، بعد إصدار قانون جديد للأحزاب لا يمكن أن يستقيم نظام الانتخاب النسبي من دونه.
ويجب أن يدرك النواب الجدد أن ثمة شهية لدى الكتل التقليدية، أياً يكن عددها، لابتلاعهم، وأن عليهم ابتكار بدائل جديدة للحوار والنقاش والمخالفة والمعارضة بغية الإسهام في صوغ نظام جديد، وتحقيق الانسجام بين القانون والمؤسسات بحسب نظام الطائف الذي يجب أن يدعموا سيد العهد في تنفيذ ما بقي منه، وهو أساسي، وعدم تقديس الدستور بجعله عصيّاً على التعديل.
وإننا نلفت الأقليات النيابية إلى أنها ليست معزولة أو ضعيفة، لأنها متميزة عن الأكثرية المتوحشة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تجعلها على تماس مع الشعب، وتسهم في تكوين نوع من الشراكة في الوعي بحيث يصبح الفساد في نظرها شأناً مرئياً وواضحاً على نطاق واسع، ويتحوَّل من سرّ مكتوم الى حقيقة عامة. وستقوم هذه الوسائط بدور بديل من الأحزاب ذات الطابع الطائفي والمذهبي، في تقوية دور المجتمع التعددي في الحياة السياسية. ذلك أن الإعلام التقليدي وحده غير كاف لتحقيق التغيير المنشود، وأن ما تحتاج اليه هذه العملية هو انتشار الأفكار وتداولها وإجراء حوارات حولها، ما يظهر قدرة الناس على التأثير في القرارات.