منذ عام 2005، والانتخابات النيابية في لبنان تخاض بطريقة خاصة عند الجمهور المسيحي. طبيعة قانون الانتخاب، والدوائر المفصلة على قياسات الزعامات الطائفية، تجعل العنصر الطائفي طاغياً في حالات كثيرة. وفي لبنان، كان الأمر عبارة عن انتفاضة في الخيارات، بعد 15 عاماً من الحكم في ظل النفوذ السوري ـــ السعودي، الذي أطاح التمثيل المسيحي لمصلحة نفوذ الزعامات الاسلامية. بين عامي 2005 و2009، توزع الناخب المسيحي بحرية كبيرة جداً، بين مجموعة خيارات حزبية وسياسية ومناطقية. لكن الانقسام السياسي ظل محصوراً بين فريق 14 آذار بنسخته السعودية ـــ الاميركية، وفريق 8 آذار وحلفائه، بنسخته السورية ـــ الايرانية. وقد ذاب حزبا الكتائب والقوات اللبنانية في المحور الاميركي ـــ السعودي الى حدود خسارة الخصوصية، حتى إنهما قبلا بالحصص كما يقرّها الأخ المسلم الاكبر المتمثل بتيار المستقبل.
التيار الوطني الحر اقترب كثيراً من الحلف المضاد. تماهى مع خطاب المقاومة والوقوف الى جانب الدولة السورية في مواجهة المحور الآخر. لكن «التيار» حافظ على مسافة جدية مع العناصر المحلية للمحور المحسوب عليه، ولا سيما في ما خصّ الواقع الداخلي في لبنان. وكان التباين بين «التيار» وأطراف بارزة في فريق 8 آذار، من الرئيس نبيه بري الى النائب سليمان فرنجية وقوى أخرى، متمحور حول الانتخابات الرئاسية، وهو خلاف استمر حتى لحظة فرز الاصوات في الجلسة النيابية التي انتخب فيها العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
عملياً، اختلف الامر كثيراً بعد وصول عون الى بعبدا. عناصر الاختلاف برزت في سياسات التيار الوطني الحر. صارت معركته المعنونة باستعادة حقوق المسيحيين، معركة خصومة مع مسيحيي ومسلمي 8 آذار على حدّ سواء، إذ قرر «التيار» إنهاء أي علاقة مع النائب فرنجية وكل الشخصيات المسيحية القريبة منه أو القريبة من الرئيس بري، كما قرر «التيار» إعلان ربط نزاع مع رئيس المجلس النيابي، معتبراً أنه «رمز الفساد» في البلاد.
لم ينس اللبنانيون أن باسيل أصرّ على حرمان مسيحيي الجنوب من القدرة على التصويت لمرشحين مسيحيين


على أن الامر لم يقف عند هذا الحد. ذلك أن سلوك التيار الوطني الحر، خصوصاً رئيسه جبران باسيل، اتسم بانتهازية كبيرة، نتيجة اعتباره أنه صار ممثل المسيحيين شبه الحصري داخل مؤسسات الدولة. فلا هو يقبل بشراكة حقيقية مع بقية الاطراف المسيحية في ما يعرف بحصص الطوائف داخل الدولة ـــ وهنا، قرر إطاحة تفاهمه مع القوات اللبنانية ـــ ولا هو أقام أصلاً أي وزن لاعتراضات الكتائب وشخصيات 14 آذار على المحاصصة.
في المقابل، وجد باسيل ـــ على وجه الخصوص ـــ أن تثبيت مرجعية «التيار» للمسيحيين في الدولة يتطلب تفاهماً مع الشريك المسلم الأبرز في السلطة التنفيذية. وكان التفاهم ـــ التحالف مع الرئيس سعد الحريري على قاعدة أن الأخير يحتاج إلى «التيار» في مسائل عدة، أبرزها ضمان بقائه في سدة رئاسة الحكومة، وهو، أي الحريري، مستعد لأن يقايض ذلك بالتخلي عن كل حلفائه المسيحيين في 14 آذار، وهذا ما فعله، مستفيداً من الطفولية السياسية التي أظهرها حزبا الكتائب والقوات في الفترة الاخيرة، و«تورطهما» في لعبة إقصاء الحريري التي قادتها السعودية وفشلت في تحقيقها.
اليوم، وفي ظل المعركة الانتخابية، وجد باسيل أن فكرة المرجعية المسيحية تتطلب ايضاً خوض معركة داخل «التيار» نفسه، وهي ساحة المنازلة التي انتهت الى تشكيل لوائح انتخابية في كل لبنان، مع شخصيات من خارج «التيار»، ومن خارج التفاهمات السياسية. وباعتقاد باسيل أن كل من وافق على الدخول في تحالف انتخابي معه، إنما يقرّ له بالمرجعية. وهو رهان غير دقيق، وسوف تظهر الايام أنه خاطئ أيضاً.
عملياً، الانتخابات حاصلة بعد نحو أسبوع من الآن، وسوف يدخل البرلمان 64 نائباً مسيحياً، بينهم مجموعة سيصرّ «التيار» على القول إنها تمثل المسلمين أكثر منها تمثل المسيحيين، لأنها وصلت إلى المجلس عبر لوائح انتخابية لا تخضع لسلطة «التيار» وإرادته، ما يعني أننا سنسمع لاحقاً أسطوانة تشكيك بكل نائب مسيحي وصل الى المجلس من دون مساعدة أو موافقة التيار الوطني الحر. أما الفائزون في اللوائح المتحالفة مع «التيار»، فسوف تكون غالبيتهم من الحلفاء أو الاصدقاء أو الشخصيات المستقلة (وبينهم عدد لا بأس به من المتموّلين)، بينما سيتراجع كثيراً عدد القياديين الواصلين إلى المجلس النيابي، ممن هم من صلب التيار الوطني ورموز مسيرته النضالية من الثمانينيات حتى يومنا هذا.
كيف يدير باسيل هذه المعركة؟
في آخر إطلالة شعبية له من الجنوب (الزهراني، السبت الفائت)، وجّه باسيل، كعادته، تحية إلى المقاومة وسيدها، واستذكر أن كثيرين «استشهدوا لنبقى»، ثم توجه، مباشرة، إلى أهالي المنطقة، بالقول: «لم يتمكنوا من الهيمنة عليكم بالعسكر، ولن يهيمنوا بالسياسة، ومقاومة التيار اليوم هي من أجل الشراكة».
من يقصد باسيل بالذين لم يتمكنوا من الهيمنة على أهل المنطقة بالعسكر ويسعون إلى هيمنة سياسية؟ وعن أي عسكر يتحدّث؟ لماذا يتصرف باسيل دوماً كما لو أنه يقاوم قوى احتلال؟ أي شراكة تستقيم مع من يعتبرهم محتلين؟ وللتذكير فقط: آخر عمل عسكري داخلي شهدته منطقة الزهراني مباشرة بعد اتفاق الطائف، ولم يكن المسيحيون مستهدفين فيه. على العكس من ذلك، نظر المسيحيون بعين الرضا إلى العملية التي نفذها الجيش اللبناني، بقيادة العماد إميل لحود، في تلك المنطقة، للانتشار وإجبار الفصائل الفلسطينية وحلفائها على الانكفاء إلى داخل المخيمات الفلسطينية في صيدا! أما آخر معركة كان جزء من المسيحيين طرفاً فيها في المنطقة، فهي مغامرة شرق صيدا، التي خاضتها القوات اللبنانية، بالتحالف التام مع جيش العدو الاسرائيلي. فعن أيّ هيمنة عسكرية يتحدّث باسيل... وما هذه الخفة؟ وما هذا الخلط الكارثي للحقائق والتاريخ؟
يعرف باسيل قبل غيره أن حزب الله، ومن دون الحاجة الى معركة مع حركة أمل، خاض معركة «تحرير» مقاعد قضاء جزين في الانتخابات النيابية الماضية. وحرص الحزب، في الانتخابات الفرعية التي جرت في عام 2016، ومن دون الوقوف على خاطر حليفه الرئيس نبيه بري، على أن تكون الغلبة لمرشحي التيار الوطني الحر. رغم ذلك، لم يُقم بري الدنيا ولم يُقعدها.
يقول باسيل: «لن نسكت عن حق سبعين ألف مواطن في الجنوب في اختيار ممثليكم، واحتجاجكم يجب أن تعبّروا عنه في السادس من أيار لخلق واقع جديد يكسر الهيمنة»...
الى من يتوجه باسيل بهذا الكلام؟ هل يعتقد أن اللبنانيين قد نسوا أنه (باسيل) نفسه الذي أصرّ على حصر الصوت التفضيلي في القضاء، وبالتالي، وبمنطق باسيل الذي ينسب النائب إلى أبناء طائفته، تسبّب بشرطه هذا في حرمان مسيحيي صور وبنت جبيل والنبطية وصيدا (والضنية والمنية) من القدرة على التصويت لمرشحين مسيحيين. فإذا بباسيل يكرر، للمرة الثانية في الجنوب، معزوفة أن مسيحيي المنطقة محرومون من التصويت! من الذي حرمهم؟ باسيل. لماذا تصوير الامر كما لو أن من يسميهم «قوى الأمر الواقع» أو «الساعين إلى الهيمنة» هم الذين أصرّوا على هذا الشرط، فيما كانت إحدى مشكلاتهم مع وزير الخارجية عند مناقشة قانون الانتخاب تمسّكه بهذا المطلب غير المنطقي وغير المحق؟

هل يريد باسيل مواجهة الفساد وخوض معركة بناء الدولة بالتحالف مع افرام وسركيس وضاهر وشماس؟


ماذا حصل في جبيل في دورتي 2005 و2009؟ ألم يترك حزب الله وحركة أمل الملف لإدارة التيار الوطني الحر؟ ألم يتركا له حق اختيار من يراه مناسباً لملء المقعد الشيعي في جبيل، ولم يجر، إذذاك، الوقوف عند خاطر أحد، بما في ذلك العائلات التي تريد أن تختار هي من يمثلها؟ ثم عندما قرر حزب الله، وبالاتفاق مع حركة أمل، اختيار ممثله في هذه الدائرة، في الدورة الحالية، ألم يأته الرفض أولاً من التيار الوطني الحر، ومن بعض القوى المسيحية في القضاء؟ من أعطى هؤلاء حق رفض أو قبول مرشح، بينما هم يطالبون بـ«تحرير» تمثيلهم في المناطق كافة؟ وهل قبِل حزب الله التحالف مع فارس سعيد في جبيل نكاية بالتيار الوطني الحر؟ وهل قبِل حزب الله أصلاً التحاور الجدي مع «القوات اللبنانية» وهو يعلم أن بالإمكان إدارة حوار كما يجري الحال بينه وبين تيار المستقبل، لكنه لم يفعل أبداً، لأجل ألا «يزعل» رئيس التيار الوطني الحر؟
نقطة أخيرة يكرّرها باسيل في الآونة الأخيرة، حتى باتت لازمة. كلما ذكر المقاومة، يتحدّث مباشرة عن الفساد وضرورة إبعاده عن المقاومة. لا حاجة إلى دليل لمعرفة أن المقصود حركة أمل والرئيس بري على وجه التحديد. حسناً، إذا كان باسيل يرى أن بري من أركان السلطة الذين تسبّبوا بالمشكلات الاقتصادية والمعيشية، فهل يخبرنا عمّا يفعله هو (باسيل) بتحالفه مع سعد الحريري سليل العائلة المسؤولة عن مآسي البلاد الاقتصادية، والمدمرة لكل ما له علاقة بالمؤسسات، والرافضة لفكرة الدولة ودور القطاع العام، والتي فتحت البلاد أمام أبشع عملية خصخصة، والتي اتبعت سياسات مالية ونقدية أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم، وهي نفسها السياسة التي تستعد اليوم لبيع ما بقي من القطاع العام ومن الملك العام، وحتى بيع النفط قبل استخراجه؟
ثم، هل باسيل يريد مواجهة الفساد وخوض معركة بناء الدولة، وهو يبني تحالفات انتخابية مع نعمة افرام وسركيس سركيس وميشال ضاهر ونقولا شماس؟ هل هو يواجه الإقطاع السياسي في الشمال بأن يتحالف مع ميشال معوض ضد سليمان فرنجية؟ وانه يريد تعزيز المناخ المدني في البلاد بأن يتحالف مع الجماعة الاسلامية في صيدا ضد أسامة سعد؟ وقرر أن يواجه الاقطاع الجنبلاطي بالتحالف مع طلال أرسلان في الشوف وعاليه والجنوب؟
ثمة أشياء غير مفهومة في خطاب باسيل وتحالفات التيار الوطني الحر. وثمة مبالغات تشي بقصور سياسي، وتنتهي الى رفع مستوى التعبئة الطائفية والمذهبية في البلاد بصورة تعيدنا الى مربعات الثمانينيات. وفي هذه الحالة، يصبح من المنطقي سؤال الشباب المسيحي: لماذا لا تنضوون في صفوف «القوات اللبنانية»؟