لا يسكن أياً من زعماء الكتل النيابية الكبيرة سببٌ للتوجّس من مفاجآت في نتائج انتخابات 6 أيار، في الغالب بات جزء أساسي منها معروفاً، فضلاً عن أن الكتل الكبيرة ستعود، على نحو ما هي عليه الآن ــ كما منذ انتخابات 1992 ــ تمسك بناصية السلطة الاشتراعية وتوجيهها. على أن الايام القليلة الفاصلة ترسم بضعة ملامح لانتخابات تمتحن للمرة الاولى منذ عقود، قبل الحرب وبعدها، مساراً سياسياً مختلفاً:أول الملامح العودة الى تجربة انتخابات 1972 التي شهدت تفكك كتلتين كبيرتين خاضتا انتخابات 1964 و1968 هما «النهج» وخصومه. تنافستا على الغالبية النيابية، وتمكنت إحداهما من الفوز بها في الدورتين المتعاقبتين، إلا أنها أخفقت في الوصول الى رئاسة 1970. ذلك ما كانت عليه ايضاً انتخابات 2005 و2009 بعدما تسابقت قوى 8 و14 آذار على الغالبية للاستئثار بالحكم برمته. ومع أن فريق 14 آذار حازها مرتين، أخفق في الإمساك الفعلي بالسلطة. الأبرز في هذه الدلالة أن حكم البلاد لا يُدار بغالبية نيابية ناجمة عن انتخابات عامة، بل بائتلاف قوى ليس شرطها الرئيسي ــ أو الوحيد ــ أن تكون ممثلة في مجلس النواب ولا أن تتفاوض من خلاله حتى. ليست الغالبية النيابية صنعت انتخاب الرئيس ميشال عون، ولا مناقشات مجلس النواب أنتجت القانون الحالي للانتخاب. هو ايضاً مغزى أن غالبيتي 2005 و2009 قادتا الى شغورين رئاسيين أكثر منهما الى انتخاب رئيس للجمهورية، أو في أحسن الاحوال فشلتا في الإتيان به من صفوفهما. ليست الغالبية تصنع الحكومة، ولم يعد رئيس الجمهورية كما في عقود ما قبل الحرب في حاجة الى غالبية يوازن بها اشتباكه مرة مع البرلمان، وأخرى مع رئيس الحكومة.
ثانيها، منذ ما قبل انتخابات 2018 ــ وليس بسببها ــ خرج الأفرقاء جميعاً من كتلتي 8 و14 آذار، وراح كل منهم يدير معركته الانتخابية في دائرته الصغرى، يدافع عن مقاعده فيها فحسب. لم يعد الرئيس سعد الحريري يخوض انتخابات الشارع السنّي في بيروت وطرابلس وصيدا وإقليم الخروب وعكار والبقاع الغربي ــ راشيا في آن واحد، كما لو أنه سيّد هذا الشارع وحده. في طرابلس الآن معركة الطرابلسيين، وفي صيدا معركة الصيداويين، وفي البقاع الغربي ــ راشيا وعكار معركة أبنائهما وإن فيهما موالون له. الأمر نفسه مع النائب وليد جنبلاط يدافع أولاً عن دائرته اللصيقة به الشوف ــ عاليه كأنه يدافع عن المختارة بالذات، وإن عوّل على حلفاء في بعبدا ــ وكانت في انتخابات 2000 دائرته الثانية القوية بعد الشوف ــ وفي بيروت بينما فقد حلفاء البقاع الغربي ــ راشيا. لا يختلف الأمر بالنسبة الى التيار الوطني الحر في ما ترمز اليه دائرة كسروان ــ جبيل، وإن وزّع لوائحه على معظم الدوائر. في نهاية المطاف لا يُحتسب فوزه الفعلي ــ كما هزيمته النكراء ــ إلا في هذه الدائرة بالذات، في المقعد الذي شغله الرئيس ميشال عون 11 عاماً ويخوض حزبه، الحزب الحاكم، معركته.
بذلك تكمن أهمية انتخابات 2018 بالنسبة الى الكتل هذه في المقاعد التي يقتضي أن لا تخسرها، لا تلك التي تتوقع الحصول عليها.
على غرار 1972، يدافع زعماء الكتل عن مقاعد دوائرهم فحسب


ثالثها، أن ثنائي حزب الله وحركة أمل الذي لا يزال وحده يشكل استثناءً لقاعدة تفرّق الكتل الاخرى، لا تقيم نقطة الضعف الرئيسية فيه في دفاعه عن مقاعده الشيعية في دوائر غالبيته ــ وفي الغالب سيحصدها الـ27 كلها ــ بل في دفاعه عن لوائح حلفائه في دوائر المناطق البعيدة من البقاع الشمالي والجنوب. ليس ثمة منافسون مؤثرون للوائحه، وقد يكون من غير الواقعي الاعتقاد بأن شارعه سيخذله، ويقترع ضده احتجاجاً أو تذمراً، وتالياً فإن الاصوات التفضيلية الشيعية هي التي ستطيح مقعداً أو اثنين في لوائحه، وليس خصومه.
منذ انتخابات 1992، حينما خاضت حركة أمل وحزب الله للمرة الاولى المعترك، تصرّفا على أنهما معنيان بوضع المقاعد الشيعية وتلك غير الشيعية (السنّية والمسيحية) في حصتهما. في الاستحقاق الحالي، يذهبان الى أبعد من ذلك، باتخاذ مواقع متقدمة في دوائر حلفائهما في مناطق لا غالبية شيعية فيها، أو لا مقاعد فيها حتى. ذلك فحوى الإطلالات الاخيرة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، إذ حضّ على الاقتراع في دوائر بعيدة من البقاع الشمالي والجنوب. لا يتوخى الثنائي الشيعي من التغلغل في الدوائر البعيدة منه الوصول الى غالبية نيابية جرّب عدم جدواها عندما عطلّ مفاعيلها حينما كانت بين أيدي الفريق الآخر، بل بلوغ أوسع مروحة سياسية تعزز خياراته المحلية والاقليمية.
رابعها، ليس سراً أن التغيير في لبنان إما لا يسير، أو يسير بطيئاً للغاية. ليس سراً أيضاً أن قانون الانتخاب وفق التصويت النسبي لن يحدث انقلاباً مصيرياً في بنية السلطة الاشتراعية، وإن هو يُجرّب للمرة الاولى ويحوط الغموض بجزء من النتائج المتوقعة. قرابة ثلاثة عقود من قوانين انتخاب متعاقبة، في الأربعينات وفق الدائرة المحافظة، وفي الخمسينات وفق الدائرة الفردية، وفي الستينات وفق الدائرة القضاء، لم تتزحزح قوى البرلمان وكتله وظلت تخرج من الانتخابات وفق القوانين المتفاوتة كأنها منتصرة فيها. ذلك ما صحّ في الانموذج الامثل للتغيير في انتخابات 1972 حينما دخل البرلمان للمرة الاولى 40 نائباً جديداً، هم أقل من نصف عدد النواب الذين يتألف منهم المجلس حينذاك، وهو 99 نائباً. وقد عُدّ ما حدث تحوّلاً مهماً. بيد أن الوجوه الجديدة انبثق معظمها إما من كتل رئيسية ترأسها الرؤساء صبري حماده (البقاع الشمالي) وكامل الاسعد (حاصبيا ــ مرجعيون) ورشيد كرامي (طرابلس والضنية) وصائب سلام (بيروت الثالثة) وجوزف سكاف (زحلة) وسليمان العلي (عكار) ومجيد أرسلان (عاليه)، وإما من أحزاب، بيار الجميّل (بيروت الاولى) والرئيس كميل شمعون (الشوف وبعبدا) وريمون إده (جبيل) وكمال جنبلاط (الشوف) والطاشناق (بيروت الاولى والمتن). لم تسقط الكتل تلك أو يضمحل بعضها لو لم تقع الحرب.
لا مفاجأة تنتظر كتل انتخابات 2018 ما خلا فقدانها عدداً من المقاعد لا يجعلها تفقد بوصلة إمساكها بمجلس النواب. ذلك ما يطابق الكتل الكبرى المقبلة لبري وحزب الله والحريري وجنبلاط والتيار الوطني الحر. لعل أفضل مؤشرين الى تماسك هذا الائتلاف العريض، أن أفرقاءه حسموا سلفاً استحقاقي المرحلة التالية: بري رئيساً للمجلس، والحريري لرئاسة الحكومة الجديدة، استكمالاً للتوازن الذي أنشأته تسوية 2016. أما الباقي ــ بما في ذلك الملفات الشائكة والمستعصية حتى ــ فتحت هذه المظلة.