بعد إعلان الرئيس سعد الحريري أسماء مرشحي تيار المستقبل، انتشرت في عكار صورة تُقارن بين ترشيحات الحريري عام 2018، وترشيحات «الحاكم الأمني» للشمال، العميد في الاستخبارات السورية، محمد مفلح، عام 2000. في ذلك الحين، رشّح مفلح كلاً من: وجيه البعريني، طلال المرعبي وفوزي حبيش. وبعد 18 عاماً، رشّح الحريري كلاً من: وليد وجيه البعريني، طارق طلال المرعبي وهادي فوزي حبيش. يبدو الحريري هنا أقرب إلى من ينقاد إلى «لاوعيه السياسي»، منه إلى الباحث عن مصلحته الانتخابية. كما أنه أمين على التاريخ السياسي لعائلته، ولتياره، ولفريقه الأوسع. يمكنه أيضاً تبرير «محاسن الصدف» بالقول إن محمد مفلح لم يعد أحد رموز الحكم السوري للبنان، بقدر ما صار أيقونة من أيقونات الثورة السورية، وقدّم لمعارضي الرئيس بشار الأسد، في بلاد الشام وخارجها، خدمة لا تُقدَّر بثمن، يوم خان جيشه وسلّم مدينة حلب للمعارضين (أو على الأقل، هكذا هي الرواية الرائجة عنه) في تموز 2012. كيفما نُظر إلى الحريري، يبدو متصالحاً مع نفسه في اختياره للمرشحين الأبناء. هو يريد الفوز، بأي ثمن. تماماً كما كان يفعل «الأسلاف»: جمع الأضداد في لائحة واحدة، لضمان فوز أكبر عدد ممكن من المرشحين. يُوصف ذلك الأداء بالانتهازية. لكنه أقرب إلى تظهير غريزة البقاء. قالها جنبلاط قبل سنوات في مقابلة مع صحيفة غربية: «نحن لا نمارس السياسة، بل البقاء». ما الذي يفسّر ضم الحريري «سوريين»، بالمعنى السياسي للكلمة، و8 آذاريين، إلى لوائحه؟ إنها غريزة البقاء. غريزته وغريزة الملتحقين به، من: وليد البعريني في عكار، إلى محمد القرعاوي في البقاع الغربي، ومَن بينهما. غريزة البقاء معطوفة على ما يدفعه إليه «لاوعيه السياسي» الذي تشكّل، أيام رفيق الحريري، بإرادة سورية. للأمانة، هي إرادة غازي كنعان ورستم غزالي ومحمد مفلح وجهاد صافتلي وعلي دياب ومعين ظاظا وعلي دوبا وحكمت الشهابي وجامع جامع وعبد الحليم خدام وغيرهم من صانعي الملوك في لبنان بعد الطائف.
وفي مقابل الحريري، يقف ورثة «النصف الآخر» من النظام الأمني اللبناني ــ السوري المشترك، ليخونوا كل تراثهم السياسي. هي خيانة موصوفة لأرواح صانعي الملوك. يُروى أن مرشحاً في زحلة عام 1996 حاول مخالفة إرادة غازي كنعان (أبو يعرب). زاره الأخير في منزله. ظن كثيرون أنها زيارة دعم، لكن «أبو يعرب»، بمجرد أن صافح مضيفه، عاجله بالقول: «خبّرونا إنك انسحبت». لم يكذّب المرشح خبراً، فانسحب من المعركة الانتخابية بلا أي جدال.
اليوم، تعيش قوى 8 آذار واحدة من أسوأ أزماتها. النظام الانتخابي المعتمد حالياً هو نظامها. غيّب القانون الأكثري أبرز وجوهها عن مجلس النواب منذ عام 2005، ثم سنحت لها الفرصة اليوم لتستعيد بعض وجودها المسلوب. لكن ينقصها، لتستغل الفرصة كما يجب، عامل أساسي من عوامل لصق مكوناتها: غازي كنعان.
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يرفض لعب دور كنعان. للحزب «رؤيته» في هذا المجال. يقول مسؤولوه إن استنساخ تجربة كنعان «ليس من أخلاقنا. لا نفرض خياراً على حليف، ولا نهدد آخر، ولا نجبر أحداً على فعل ما لا يريد». أضِف إلى ذلك أن عدداً من حلفاء الحزب يريدون ابتزازه، وتحميله نتيجة أي خيار يقترحه عليهم. فإذا طلب من أحدهم أن يتحالف مع حليف آخر، ولم يفز بالانتخابات، فسيقول الراسب إنه لم ينجح بسبب تلبيته رغبة الحليف الأكبر.
في غياب غازي كنعان، يسير «جماعة 8 آذار»، انتخابياً، بلا حسيب. يخوضون الانتخابات كمن يتعمّد أن يخسر فريقه. بعضهم يتصرف كما لو أنه قوة عظمى، فيما هو يدق أبواب السفارة السورية والحاج ساجد (أحد مسؤولي التواصل مع الحلفاء في حزب الله) مطالباً بأصوات تفضيلية له. وفي الوقت عينه، يرفض التحالف الانتخابي مع زميل له في فريق «شكراً سوريا»، بحجج واهية.
الحاجة إلى غازي كنعان تبدو ملحّة أكثر من أي وقت مضى لقوى 8 آذار التي تثير الشفقة. فإذا استُثني تحالف حزب الله ــ حركة أمل ــ الحزب السوري القومي الاجتماعي، تعجز هذه القوى عن تأليف لائحة في أي دائرة من الدوائر.
في عكار، يرفض أحدهم الآخر، ويتكبّرون على التيار الوطني الحر. في طرابلس ــ المنية ــ الضنية، يُشعر الوزير السابق فيصل كرامي والنائب السابق جهاد الصمد من يستمع إليهما بأنهما على تقاطع الصليب الأحمر وغرين بيس. فهما يرفضان التحالف مع كمال الخير، بحجة أن خطابه مرتفع اللهجة في تأييده لسوريا وحزب الله! أما النائب طلال أرسلان في الشوف وعاليه، فلا يبدو أنه قرأ نتائج استطلاع للرأي، فتجده يفوّت الفرصة على تحالف فريقه مع التيار الوطني الحر لحصد 5 نواب في هذه الدائرة. توقيع اتفاق سلام بين سوريا والعدو الصهيوني أهون من إقناع أرسلان بالتحالف مع الوزير السابق وئام وهاب. لا يكتفي المير بذلك، بل يشهر سيف غضبه في وجه حزب الله، ليرشّح ضدّ لائحته أحد محازبيه في حاصبيا. وهذا المرشح سبق للحزب أن أنقذه من السجن قبل أشهر. حلفاء آخرون ليسوا أفضل حالاً. يتقاتل هؤلاء على فتات المقاعد النيابية كما لو أنها «نصف الدنيا»، فيما شهداء حزب الله يسقطون في سوريا، دفاعاً عن بقاء البلاد، وفي الوقت الذي تخوض فيه أذرع المقاومة الأمنية واحدة من أشرس الحروب الصامتة في وجه العدو. لا يطالب حزب الله حلفاءه بتقدير ما يواجهه، نيابة عنه وعنهم وعن اللبنانيين جميعاً. لكن أضعف الإيمان أن يعي هؤلاء خطورة ما يجري في الإقليم، على الجبهات الأمنية والعسكرية والسياسية، فيقفون فعلاً إلى جانب المحور الذي يزعمون الانتماء إليه. والمطلوب منهم، هنا، ليس التضحية بشيء، بل الاكتفاء بالسعي إلى تحقيق مصلحتهم.
خلاصة القول، إن ما يدور على الساحة الانتخابية، داخل صفوف 8 آذار، يُظهر مجموعة لا بأس بها من الشخصيات التي لا تعرف سوى قاعدة واحدة للعمل السياسي: أبو يعرب يأمر... فيطاع.