كان اللقاء حاشداً حول مائدة السفير وضيفه الروحي الكبير. نصاب سياسي لبناني كامل. من لم يحضر شخصياً بصفته مرجعاً كبيراً، أوفد الرقم الثاني في تركيبته لينوب عنه ويمثله ويخوض في نقاشات اوضاع العالم والمنطقة والمحيط، وتأثيرها على لبنان... فجأة أزيحت تلك الموضوعات. رغم أن اللحظة مخصصة للطعام لا لفضلاته، ومع أن مقتضى المناسبة استحضار المقبلات لتحفيز الشهية، لا المنفرات لسدّها، قفز إلى لائحة النقاش موضوع الساعة: النفايات!
طرح الموضوع ضمن الغموض الخلاق نفسه الذي تحيط به الأدبيات الرسمية الببغائية. لا مسؤول ولا مسؤولية منذ عشرين عاماً. لا إشارة إلى نحو 2500 مليون دولار أميركي نهبت من جيوب الناس مقابل مافيا النفايات وأتاوات الزعامات. لا كلام عن أسباب الأزمة الأخيرة: من منع المستثمرين من تقديم أي عرض لمنطقة بيروت؟ كيف تم التخطيط لمؤامرة تعطيل المناقصات؟ كيف نفذت المؤامرة بهدف العودة إلى ابتزاز الشركة ــــ المافيا نفسها، أو الرضوخ لرشى زعماء المزابل المسماة مطامر... كل تلك الإشكاليات تم القفز فوقها في نقاش عشاء السفير. إلى أن سأل أحد الدبلوماسيين سؤالاً بسيطاً بريئاً لا يخلو من سذاجة الضيف المراقب في أدغال اسمها دولة: لماذا تتركز مشكلة النفايات في العاصمة بيروت أكثر من سواها؟
حاول البعض تقديم شروحات تقنية، من نوع ضيق المساحة الجغرافية للعاصمة الإدارية، الواقع السابق الذي جعل مطامرها خارجها، الكثافة السكانية في بيروت ومحيطها... حتى بدا رئيس الحكومة الأسبق الحاضر والمستمع حتى اللحظة، قد أتخم من التفسيرات العقيمة ومن المطولات المرفوضة بالنسبة إليه. بإشارة من يده أخذ الكلام وراح يستفيض. كلمة بعد أخرى، بدأت الصدمة ترتسم على وجوه السامعين: هل صحيح ما نسمعه؟ بدأ «دولته» بالشرح كيف أن ثمة مشكلة تاريخية بيئية بشرية وسوسيولوجية وعمرانية ومن منطلقات شتى، بين بيروت وبين باقي مناطق لبنان. كأنه قصد القول إن اللبنانيين أمضوا أعمارهم وتاريخهم يحيون حالة حسد وغيرة ثأر وكيد انتقام من عاصمتهم. فكانوا يأتون إليها بخلفية تدميرها لا تعميرها. رويداً رويداً راحت رائحة العصبية المذهبية الكريهة تفوح من الكلام. خصوصاً حين شرح «دولة الرئيس» للحاضرين رؤيته لديمغرافيا بيروت الراهنة. قال إن في إحدى ضواحيها نحو 750 ألف مقيم هم ليسوا أصلاً من بيروت، بحسب تصنيفه وتشخيصه. من المقصود؟ غرباء من أرض النار المنبوذين؟ غزاة من كوكب آخر؟
ثم تابع دولته شرحه: رغم ذلك، قال، فتحت بيروت أبوابها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها للآخرين. تماماً كما فتحت بيوتها للآتين من مختلف المناطق والطوائف الأخرى! كررها «دولته» أكثر من مرة، «الطوائف الأخرى». ترى، لمن هي بيروت في الأصل إذن؟ من يملكها في الأساس ويدرجها في إرثه الذري أو الملي أو المذهبي أو الطائفي، ليحسب وجود ابناء طوائف أخرى فيها، خطوة من نوع التسامح الذمي الاستعلائي من قبله تجاه هؤلاء؟ من يقبع في قعر عقله اللاواعي، أو في لاعقله الواعي، أن هذه المدينة ــــ الأيقونة، هي ورقة طابو واحدة من تلك التي راكمها في أرصدته بسيولة وسخة مقتطعة ريعاً من سائل أوسخ؟ علماً أن بين الحاضرين حول الطاولة، كان ثمة بيروتيون من قبل أن يكون هناك دين وطوائف وقبائل معممة. وكان حول المائدة بعض من هم من أبناء «بيريتس»، قبل قرون طويلة من مجيء تلك السيدة الإسبانية عبر السلطنة العثمانية مستعمرة في صيدا... فكان الذهول وجوماً مكتوماً على وجوههم. لم يلبث أن صار صدمة حين أكمل «دولته» شرحه العلمي، عن أن المشكلة اليوم هي أن بيروت تستقبل ناساً من كل لبنان، فيما هؤلاء يرفضون أن يستعيدوا منها بعض نفاياتها! كاد الرجل أن يطلق من مكبوتاته تلك المعادلة القذرة: إننا نقبل نفاياتكم البشرية، فعليكم في المقابل أن تقبلوا نفاياتنا البيئية!
هكذا تتكشف أبعاد الأزمة بكل مستوياتها. قضية النفايات إشكالية بالغة التركيب والتعقيد إذن. فهي بداية مسألة نظام فسادٍ مافيوي تحكّم بالبلاد طيلة ربع قرن ونهب ثرواتها واستدرّ كل خيراتها وقننها صوب أرصدة شخصية جداً. نظام سرق مليارات الناس وتعبهم وجناهم من ضمن سياسة مدروسة قصداً وعمداً، تقضي بإفقار مدروس للشعب، ضماناً لارتهانه وتكبيل يديه والأفواه... ثم هي مسألة منظومة فكرية ــــ سياسية تقوم على مبدأ المركزية الأحادية الإستئثارية الإلغائية. بحيث تضرب كل الأطراف، وتضرب كل المناطق، وتعزل عن بعضها كما عن بيروت. بحيث يسهل التحكم بالمركز وحكم البلاد منه بسلاسة الديكتاتورية المقنعة. ومن ضمن هذه المنظومة يصير طبيعياً أن يكون الغُنم لسادة المركز والغُرم، من البؤس حتى الزبالة، جزية مفروضة على الأطراف مقابل السماح لهم بمجرد الحياة والتفرج على فجور السلطة في المركز... لكنها أخيراً أو أولاً، أزمة ذهنية عنصرية بامتياز، تكاد تعلن أن في البلاد طبقة مغلقة، «كاست» يحكم، وعبيداً يُحكمون. ذهنية الست والجارية، بكل انتماءات الاثنين... رحم الله سمير قصير وعمر أمرالاي، لمن يفطن ويتذكر!