كأنهم هم من يوقظون الشمس بدل أن توقظهم. يسبقونها إلى المساجد لأداء صلاة الفجر في الحارات الضيقة، النظيفة جداً في الصباح. حتى إذا ما أنهوا صلاتهم وقاموا يمسحون بالضوء وجوههم، اكتشفوا أنها لا تزال الوجوه القديمة المتعبة نفسها، وأنهم لا يزالون يرتدون الملابس نفسها، ويبحثون عند الباب عن الحذاء القديم نفسه. مرة أخرى، يكتشفون أنهم اندفعوا، بحماسة، صوب يوم مملّ آخر.
يكتفي عدد كبير من أصحاب المتاجر في طرابلس بتأجيرها للنازحين السوريين. حتى الشقق السكنية، في الأحياء القديمة، بات أصحابها يفضلون تأجيرها واستئجار أو شراء أخرى في الأحياء الجديدة. «النق» هواية يمارسونها حين يُسألون عن النزوح السوري أو يتطرقون هم إليه من دون سؤال. لكن التشعب في الحديث يبيّن أن النزوح يرافقه ضخ ماليّ أجنبي يستأجر منهم المنازل والمتاجر والمستودعات، ويبقي أسواق الخضر والثياب والمواد الغذائية على قيد الحياة، و«يربّح» الأساتذة راتباً إضافياً آخر الشهر بدل راتب واحد. فيما الجمعيات الأجنبية ووزارة الشؤون الاجتماعية توفّر مئات فرص العمل لأبنائهم في هذا القطاع.

طرابلس تخدع
من لا يدقق جيداً،
وما يشاع عن انتخاب فقراء المدينة لأثريائها ليس دقيقاً


تبدو المدينة وكأنها سوق كبير. تتفرع من شارع عزمي مئات الشوارع. متاجر إلى جانب متاجر، فوقها متاجر. رغم ذلك هي سوق خامل. كان التجار يحمّلون مسؤولية الخمول للأوضاع الأمنية. انتهت الأحداث ولا يزال الركود على حاله. سابقاً، كانت المدينة سوقاً للقرى والبلدات المحيطة بها. اليوم، بات لكل بلدة وقرية سوقها. حتى الحلو العربي فقد جاذبيته بعدما باتت فروع الحلاب وإخوانه في كل حيّ في لبنان.
غفلت المدينة عن تغير وظيفة المدن وتحوّلها مقاصد للسياح ومراكز للأعمال. هنا، لا بنى تحتية ولا من يهتمون. محطة القطارات عند أطراف المدينة كانت، قبل سنوات، نقطة مميزة يمكن زوار المدينة التوقف فيها. اليوم، ابتلعها العشب وتحوّلت وكراً للأفاعي. أدراج المدينة يمكن أن تربط قلعتها ببعض أحيائها التراثية من دون كلفة تذكر. الجزر القريبة من الشاطئ يمكن أن تتحوّل إلى مرافق تجتذب السياح. وغير ذلك كثير، لكن أحداً لا يبالي: لا هيئات المجتمع المدني ولا المجالس البلدية ولا الوزارات. والأهم، أن الناس المعنيين مباشرة لا يبالون أيضاً. في صور، مثلاً، اكتشف أهل الحارتين القديمتين ما يمكن أن يدرّه عليهم تنظيف واجهات المنازل وترميمها وتخصيصها للمشاة، فيما تختار الأحياء الطرابلسية الإهمال طوعاً. لا أحد يعنيه التفكير بساحة التل والحدائق العامة المحيطة بها أو بالمسرح القديم أو بالأسواق الشعبية. باختصار، الأمل ضئيل، وضئيل جداً، بتحول طرابلس وجهة سياحية ما دامت فعالياتها وجمعياتها ومجتمعها المدنيّ يفتقدون المبادرة والتخطيط.
يمكن أن تزور صور للاستمتاع بشاطئها، أو صيدا للاستمتاع بجولة في حاراتها القديمة وفي عشرات المقاهي المحيطة بقلعتها. في البقاع الغربي، هناك عشرات المحطات في الطريق إلى بحيرة القرعون. أما لماذا تزار طرابلس، فسؤال جديّ برسم فعالياتها. حتى لقب «أم الفقير» لم يعد يليق بها، بعدما باتت الأسعار هناك كمثيلتها في فرن الشباك أو الحدت أو الزلقا أو حتى الكسليك!
وصف المدينة بـ«قلعة المسلمين» تارة و«أم الفقير» طوراً، وبـ«مدينة العلماء» مرة و«مدينة أمراء المحاور» مرات، لا يعدو كونه شعارات فارغة لم تفدها بشيء. أضاع الوزير السابق أشرف ريفي الفرصة الاستثنائية التي أُعطيت له في الانتخابات البلدية. إدارته للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وإدارة المقربين منه للمنتجعات السياحية أوحيا بأنه سينجح في إدارة البلدية، ولكن ثبت العكس. في الانتخابات لم تكن الصورة كما هي اليوم. كان ريفي يواجه، بـ«عدّة جديدة»، مجموعة السياسيين الذين ألحق تقاتلهم خراباً هائلاً بالمدينة، وكان الرئيس سعد الحريري خارج السلطة، والرئيس نجيب ميقاتي خارج المدينة. احتاج الجميع في الداخل والخارج، بمن فيهم حلفاء الحريري وأنصاره، إلى رؤية اللواء ينتصر. لكن أن يخسر الحريري معركة صغيرة أمر، وخسارة الحرب أمر آخر لن يُسمح به بسهولة. من انتخبوا ريفي كانوا عاتبين على الحريري، ولكن ليس الى الدرجة التي بلغها وزير العدل السابق. هؤلاء يريدون من الدولة خدماتها والتفاتها إليهم، لا الإمعان في محاصرتهم. أساساً، النفوذ الذي بناه ريفي قام على الخدمات الفردية التي أطلق الحريري يده لتأمينها.
ليس الحريري وحده من يضع العصيّ في دواليب رجله السابق. قبل عشرة أشهر من الانتخابات، يخصص الرئيس نجيب ميقاتي يوماً كاملاً للحضور في مقر جمعيته في باب الرمل، ويجول في الأسواق مستمعاً. رصد حركته، لا في طرابلس فقط، بل في المنية والضنية وعكار، يؤكد تطلعه إلى القول أخيراً إنه زعيم الشمال. لا شك أن قانون الانتخاب عزز تفاؤله وشجعه، إلا أن إدراكه أن التفاهم السياسيّ الحالي لا يشمله، دفعه إلى مراجعة حساباته وإثبات نفسه في الميدان أخيراً.
الحديث عن ميقاتي يقود إلى القول إن ما يشاع عن انتخاب فقراء المدينة لأثريائها ليس دقيقاً أبداً. طرابلس تخدع من لا يدقق جيداً. الإهمال اللاحق بمظهرها الخارجي ونزوح الكثير من الأسر الفقيرة (والغنية) من المنية والضنية وعكار للسكن فيها لا يسمح بالقول إن الفقراء ينتخبون الأثرياء، لأن هؤلاء، في غالبيتهم، لا يقترعون في طرابلس أصلاً. الماكينات الانتخابية تؤكد أن البرجوازية الطرابلسية هي اللاعب الأقوى في انتخابات المدينة لأنها تضم معظم النافذين في العائلات الكبيرة. عليه، أن يعيش ريفي حياة بورجوازية في منتجعاته عند أطراف المدينة، و«عيشة فقر» داخلها، لن يغيّر معادلات كثيرة. الماكينات بدأت العمل بنشاط، والناخبون شبه «مفروزين»، ولا يحتاج كل طرف إلى أكثر من شدِّ عصبه. وهو ما بدأه ميقاتي أخيراً، بعد المحاولات المتعددة المتعثرة للحريري.