إنّهم «الآن» تحت نوافذ «الأخبار». لحظة كتابة هذه السطور، يطلقون الهتافات عن الثورة الشعبيّة والحريّة و«جمّول»، ويلوّحون بالرايات الحمراء والأعلام اللبنانية. شبّان وشابات لم يكونوا هنا، في معظمهم، صيف 1982، حين اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان وحاصر بيروت، ثم دخلها لتكون أوّل عاصمة عربيّة يحتلّها العدو الصهيوني منذ القدس. مساء الجمعة 16 أيلول، ارتدى مبنى «الكونكورد» حلّة المناسبات الاستثنائيّة: إنّها الذكرى الـ 34 لانطلاقة «جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة» (جمّول). الأجواء هنا تذكّر بالزمن السعيد، حين كان الحزب الشيوعي يحشد الجماهير في المكان عينه، في ذكرى تأسيسه، وتتوافد الشخصيات لمشاركته العيد. نتحدّث عن زمن بعيد، نريده أن يعود. أيّام كان «الحزب» قوّة فعليّة على الأرض، ومكوّناً أساسيّاً من مكوّنات «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة». في ردهة سينما «كونكورد» صور بالأبيض والأسود معلّقة كيفما اتفق، مبعثرة كحال الصور في ذاكرتنا الجماعيّة، تستعيد تلك المرحلة. انظر، هذا جورج حاوي ومحسن ابراهيم مع «الختيار» (أبو عمّار) وحولهم الفدائيّون والمقاومون. وكان بوسع المتفرّج المتمهّل أن يجد في الصورة حتى… وليد جنبلاط. نعم هو. أوووه، لعنة الله على هذه الأيّام، كم أن الزمن تغيّر. نتذكر دموعنا ونحن نتفرّج على البيك الشاب الذي أخذ المشعل على عجل من والده الشهيد، المعلّم كمال جنبلاط. نراه الآن من هنا واقفاً بالرشاش على «البور» (مرفأ بيروت) في وداع الفدائيين، معاهداً الجماهير أنّه سيبقى يقاتل من أجل فلسطين، وسيلاحق «الإمبريالية» حتّى نهاية العالم.لكننا اليوم في مرحلة ما بعد «الربيع العربي» الذي أدخل الصهيوني من ثغرة في وعينا، ويحاول أن يجعله «وجهة نظر»: صديقاً مستقبليّاً، وحليفاً استراتيجيّاً، وجاراً طيباً، ورسول سلام! ألم تقرأوا جريدة «لوريان لوجور» أول من أمس، كيف تبنّت، على صفحتها الأولى، نظرة وكالة «فرانس برس» العاشقة إلى شمعون بيريز؟ مساء السادس عشر من أيلول 2016، تغيّرت أمور كثيرة. لكن الأساسي بقي هو نفسه، والبوصلة ما زالت تشير إلى الجنوب صوب فلسطين. أهميّة هذه الذكرى المقدّسة أن تجمع أوسع قدر ممكن من اللبنانيات واللبنانيّين، حول فكرة أساسيّة هي أن إسرائيل عدوّ مطلق، وأننا قاومناه وهزمناه، وما زلنا نقاومه وسنجرّه من هزيمة إلى أخرى. وضمير المتكلّم للجماعة يعود إلى كل اللبنانيين وكل العرب، بمعزل عن عقائدهم ومللهم ومذاهبهم. في كل حروب التحرير، يستشهد المقاوم الفرد باسم الجماعة. حفنة من المقاومين واجهوا الاحتلال النازي في فرنسا، وقد كانوا حتماً أقلّ بكثير من المتعاونين مع الاحتلال والصامتين والمحايدين. لكنّ كل فرنسي يقول اليوم بفخر (حتّى إذا كان أفراد عائلته، خلال الحرب العالميّة الثانية، من أتباع الماريشال بيتان): «لقد قاومنا النازيّة، وانتصرنا». ولا أحد يسأل عن هويّة هذا المقاوم، ديغولي أم شيوعي، يهودي أم مسيحي، بولوني أم فرنسي؟
لنحتفل بـ «جمّول» إذاً. في مثل هذا اليوم (أمس) قبل 34 عاماً صدر البيان الذي يدعو إلى قيام جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، لمواجهة العدوّ الاسرائيلي: «يا رجال لبنان ونساءه من كل الطوائف والمناطق والاتجاهات (…) إلى السلاح استمراراً للصمود البطولي دفاعاً عن بيروت والجبل، عن الجنوب والبقاع والشمال». هذا العدو هزمناه تباعاً منذ 1982، وكسرنا هيبته، وحطمنا أسطورته، وسنواصل إخضاعه حتى استعادة كامل الحقوق. صار ذلك ممكناً بفضل شرارة أطلقها مناضلون وطنيّون ويساريّون وقوميّون وعلمانيّون بإمكانات قليلة، وتصميم يهدّ الأسوار وينقل الجبال. عن هؤلاء المقاومين الأبطال تحدّث أحد الخطباء، داخل القاعة: «هناك وجوه نعرفها، وأخرى كثيرة لا نعرفها». على الشاشة صورة الرفيق الراحل كمال البقاعي أحد قادة هذه المقاومة، باللحية الكثيفة والبيريه. على الشاشة نفسها تطل مكادي نحّاس في رسالة مسجّلة إلى المحتفلين، تغنّي لـ «جمّول» فتردد معها الكلمات مراهقة لفّت حول عنقها الكوفيّة. ويصفّق بحماسة رجل ستيني بالتيشيرت الأحمر المنقوش عليه رأس كبير للرفيق فلاديمير إيليتش أوليانوف لينين.
اسمعوا هذه الكلمات كم هي راهنة: «فلتنتظم صفوف الوطنيين اللبنانيين كافة، وبغضّ النظر عن انتماءاتهم السابقة وعن الاختلافات الإيديولوجية والطائفية والطبقية، في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كسراً للقيد الذي تحاول أن تفرضه اليوم أميركا و«إسرائيل» على عنق شعبنا الحر، ورفعاً لراية التحرر الحقيقي لشعبنا العظيم». بعد أربعة أيّام من البيان الذي يحمل توقيع جورج حاوي ومحسن إبراهيم، كانت أوّل عمليّة ضد العدوّ عند «صيدليّة بسترس». صحيح أن أيلول شهر المجزرة، تلك التي يحاول كثيرون طمسها، صبرا وشاتيلا، تماماً مثل المقابر الجماعيّة التي يرقد فيها شهداء بلا أسماء، أطفال ونساء ذبحهم إيلي حبيقة ورجاله، بأمر من الضابط الإسرائيلي، ورعايته والمشاركة الفعليّة لجنوده. لكن أيلول شهر مجيد أيضاً. يكفي أن نذكر «صيدليّة بسترس»، «محطة أيّوب»، مقر «منظمة التحرير»، «مقهى الويمبي»… يكفي أن نستعيد مشهد جنود الصهاينة مذعورين في السادس والعشرين: «يا أهالي بيروت، لا تطلقوا النار، نحن منسحبون».
تنظر اليوم إلى شبان وشابات مطلع العشرين، يرفعون قبضتهم في الهواء، يعتزّون بإرث «جمّول»، ويعرفون جيّداً أي وحش بشع هذه الدولة الإسبارطيّة التي تأسست على المذبحة… كم تريد لهم أن يتزايدوا، أن يصبحوا عشرات الآلاف في كنف حزب شيوعيّ قادر على الانفتاح على المجتمع، وتجديد أدواته وعقليّته وتحالفاته وخطابه وبرامجه وبناه وكوادره. نعم، هؤلاء «الفريخات» مكانهم هنا، لا في منظمات «الإنجي أوز» التي تزوّر تحت رايات وشعارات مخادعة، آخر فرصنا في التغيير والتحرر والعدالة. أبناء «جمّول» وأحفادها يعيدون لنا الأمل.