صدر أمس القرار من ملعب كرة السلة للمقر الرئيسي السابق للاستخبارات الهولندية (المقر الحالي للمحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري): تغريم رئيس تحرير جريدة «الأخبار» إبراهيم الأمين مبلغ ٢٠ ألف يورو وتغريم «الأخبار» مبلغ ٦ آلاف يورو. أما السبب، فهو… «تحقير المحكمة» من خلال نشر أسماء وصور بعض المتعاونين مع جهودها الرامية إلى اتهام مقاومين «شيعة» (كما وصف المدعي العام الدولي المتهمين خلال مرافعته التمهيدية) باغتيال الحريري.لكن قد لا تكون أبرز إنجازات «محكمة الفتنة» المذهبية تصويب سهامها على من حرر لبنان من الاحتلال الإسرائيلي ومن يُهدد أمن الكيان الصهيوني، بل إن أهم ما قامت به هذه المحكمة هو نسف ما بقي من صدقية «العدالة الدولية». وقد أتاحت هذه المحكمة كشف الاستخدام السياسي لآليات العدالة الدولية لتحقيق مآرب «المجتمع الدولي»، وذلك من خلال الآتي:
أولاً تحديد اختصاصها القضائي، حيث إن أول محكمة دولية تقاضي مرتكبي جرائم الإرهاب لا يشمل اختصاصها مقاضاة المسؤولين عن أضخم الجرائم الإرهابية وأكثرها إيذاءً للبشر (وبالحد الأدنى للرجل الأبيض) مثل اعتداءات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، أو تفجيرات محطات سكك الحديد في لندن ومدريد، ولا هجمات الإرهابيين على المدنيين في باريس وبروكسيل ونيس. لا لا أبداً… يقتصر عمل أول محكمة دولية لمقاضاة الإرهاب على جريمة واحدة (وجرائم أخرى فقط إذا ثبت تلازمها مع تلك الجريمة)، وهي الاعتداء الآثم الذي تعرض له الرئيس الحريري وراح ضحيته 23 شخصاً في منطقة السان جورج يوم 14 شباط 2005.
ستقدم مجندة في الجيش الإسرائيلي شهادتها بعد أن تعاقد معها مكتب المدعي العام

وبما أننا تطرقنا إلى موضوع اختصاص المحكمة، لا بد من التذكير محلياً بأنه لا يشمل جرائم اغتيال الصحافي سمير قصير ولا النواب جبران تويني ووليد عيدو وأنطوان غانم، ولا الإعلامية مي شدياق، ولا اللواءَين فرانسوا الحاج ووسام الحسن، ولا الرائد وسام عيد... هؤلاء يُحرَمون «عدالةَ» المحكمة الدولية الخاصة، لكن بالرغم من ذلك، على عائلاتهم وسائر اللبنانيين تسديد كلفة 49 بالمئة من تكاليف المحكمة الباهظة.
ثانياً، السير بأول محاكمة دولية لمتهمين بارتكاب جرائم إرهابية بغيابهم، حيث إن مجلس الأمن الدولي قرر منح هذه المحكمة حق المقاضاة غيابياً. وكلفت المحكمة عشرات المحامين الدفاع عن المتهمين من دون أن يكون لهم أي اتصال أو معرفة بهم أو وكالة شرعية صادرة عنهم في ما يُعَدّ تجاوزاً لأبسط حقوقهم الإنسانية.
ثالثاً، استناد القرار الاتهامي إلى أدلة ظرفية تقتصر على نتائج تحليل حركة الاتصالات الهاتفية المنقولة من دون تحديد مضمون تلك الاتصالات أو مستخدمي الهواتف. ويتبين لكل من يدقق في نص القرار الاتهامي الذي لا يتطرق أبداً إلى دوافع الجريمة (ويُعَدّ ذلك إخفاقاً قضائياً واضحاً) أن الأدلة المعتمدة لا يمكن أن ترتقي إلى إثباتات من دون أدنى شك معقول بصدقيتها. وبالتالي إن أول حكم دولي يدين متهمين بالإرهاب، إذا صدر فعلاً عام 2018 (بعد مرور 13 عاماً على وقوع الجريمة) سيكون ضعيف الحجة.
رابعاً، اختار القيِّمون على هذه المحكمة التحرش بحرية التعبير عبر تصويب سهامهم على إعلاميين ولأول مرة في تاريخ المحاكم الدولية صدر قرار إدانة جريدة. لكن اتهام «الأخبار» والأمين وإدانتهما كان أفضل دليل على أنه وزملاءَه قد أصابوا المحكمة عبر فضح عدم شرعيتها الوطنية بعد أن قرر مجلس الأمن الدولي تجاوز موجبات الدستور اللبناني لإنشائها وبعد أن استمر نهب خرينة الدولة لتمويلها من دون موافقة مجلسي الوزراء والنواب، ومن دون خضوعها لتدقيق ديوان المحاسبة. وكيف لا تدين المحكمة «الأخبار» وهي التي كشفت عوراتها وإخفاقاتها المهنية والقانونية والأخلاقية… والآتي أعظم.
فمن مغامرات المحققين الدوليين في عيادة الطب النسائي في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث ادعوا التفتيش عن قاتل الحريري، إلى تعيين مكتب المدعي العام محققاً كان يسعى إلى تصفية الحاج عماد مغنية في إطار عمله في وكالة الاستخبارات الأميركية، إلى تسريب المحققين الدوليين معلومات ووثائق سرّية إلى «سي بي سي» و«دير شبيغل» وغيرهما، إلى الصراعات الضارية بين المدعي العام دانيال بلمار ورئيس القلم روبن فنسنت (التي انتهت باستقالة الأخير ووفاته) إلى عشرات الاستقالات الغامضة «لأسباب شخصية أو عائلية»… وكل ذلك على مرأى، وربما بمشاركة القضاة اللبنانيين في لاهاي من رالف رياشي وعفيف شمس الدين إلى وليد عاكوم وجوسلين بريدي وجويس تابت، ثلّة من القضاة الذين لطالما قيل عنهم إنهم يحترمون دستور بلادهم واستقلالية القضاء ولا يرضون أي شكل من أشكال التعاون مع العدو الإسرائيلي... فماذا سيكون موقفهم في الأسابيع القليلة المقبلة عندما ستقدم مجندة في الجيش الإسرائيلي شهادتها أمامهم بعد أن تعاقد معها مكتب المدعي العام الدولي؟
ستنشر «الأخبار» قريباً هوية الشاهدة الإسرائيلية وصورتها وتفاصيل أخرى عنها وعن المتعاونين معها في وكر الاستخبارات السابق في لاهاي.




«هزّ العصا» على مين؟

يُدرك بعض القضاة في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان خطورة استهدافهم الوسائل الإعلامية، إذ إنهم يعلمون أن هذه المحكمة تعمل لفترة محدّدة بثلاث سنوات (قابلة للتمديد)، بينما يمكن أن يلاحق الإعلام القضاة الذين يصدرون أحكاماً جائرة مدى الحياة. وبالتالي يبدو أن سياسة المحكمة لم تكن إدانة تلفزيون «الجديد» وجريدة «الأخبار»، بل تهديدهما عبر تبرئتهما بعد قيامهما باستئناف الحكم الصادر بحقهما. لكن بينما قامت الزميلة كرمى خياط من خلال وكيلها القانوني باستئناف الحكم الصادر بحقها، وصدر بالتالي حكم البراءة، سيمتنع الأمين عن استئناف الحكم الصادر بحقه وبحق «الأخبار» بسبب قرار القاضي نيكولا ليتييري فرض محامٍ عليهما من دون رضاهما، في مخالفة واضحة لحقوق الإنسان.
على أي حال، سعت المحكمة منذ صدور حكم الإدانة بحق الأمين إلى إقناعه بمنح الإذن للمحامي المفروض عليه من خارج إرادته لاستئناف الحكم. لذا، تأخرت تلاوة العقوبة بحق «الأخبار» والأمين لأكثر من شهر فشلت خلاله كل المساعي التي دعت رئيس تحرير «الأخبار» إلى الرضوخ لجبروت «المجتمع الدولي» الذي يستخدم هزّ العصا.