شهد تاريخ القضاء في فرنسا الكثير من الوقائع السوداء وغير المشرّفة. بدءاً من تلفيق التهم ضد الضابط دريفوس، لدوافع معادية للسامية، أواخر القرن التاسع عشر، ووصولاً إلى جرائم المحاكمات العسكرية في المستعمرات السابقة، خلال ثورات التحرّر الوطني. لكل أيّا من تلك الوقائع المخزية لم تكن ملطخة بالقدر ذاته من العار الذي اتسمت به فضيحة تلفيق أدلة «مخابئ الأسلحة» الوهمية التي تمت فبركتها، بأثر رجعي، عام 1987، لتبرير اتهام جورج إبراهيم عبد الله وإدانته بالضلوع في عمليات فدائية شهدتها العاصمة الفرنسية قبل ذلك التاريخ بخمسة أعوام!في مقدمة تلك الأعمال الفدائية التي دبّرتها «الألوية الثورية اللبنانية» عمليتان نوعيتان تمثلتا في اغتيال الملحق العسكري الأميركي في باريس، تشارلز روبرت راي، في 18 كانون الثاني 1982، واغتيال الدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بارسيمنتوف، في 3 نيسان 1982. لذا تكاتفت جهود ثلاثة أجهزة استخبارات، هي الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز DST الفرنسي، لتلفيق مخابئ أسلحة وهمية زُعم أنها اكتُشفت في شباط 1987، لتكون بمثابة أدلة إدانة لتوريط جورج ابراهيم عبد الله، في عمليات كانت قد مرت عليها خمسة اعوام!
وقد اعترف إيف بونيه، قائد جهاز DST، بتلك التلفيقات، بعد مرور ربع قرن. وكشف في تصريحات خصّ بها «الأخبار» ومحطة «فرانس 24»، في تشرين الأوّل 2011، أن ما حدث كان «مؤامرة استخبارية مخالفة للقانون». وأضاف: «لقد تصرفنا في قضية جورج إبراهيم عبد الله مثل البلطجيّة».
ولم يقتصر الدور الأميركي في قضية جورج إبراهيم عبد الله فقط في الاشتراك في تلفيق مخابئ الأسلحة عام 1987. بل استمر التحامل الأميركي ضد الرجل، حتى بعد أن أكمل المدة القصوى المسموح بها في السجن، حيث تدخّلت السلطات الأميركية للضغط على القضاء الفرنسي، كلما لاح في الأفق أمل بالإفراج عن الثائر الملتحي.
منذ 2003 يعطّل «القوّاد» الأميركي مسار العدالة الفرنسيّة

وحين أصدرت الإدارة القضائية الفرنسية، في تشرين الثاني 2003، قرارها الأول بالإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله، بحكم انقضاء المأمورية القصوى لسجنه، سارع الرئيس جورج بوش الابن الى إيفاد وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس إلى باريس، لإبلاغ السلطات الفرنسية، كما قالت، بأن «البيت الأبيض يرفض بشكل قطعي الإفراج عن جورج عبد الله». ما دفع بوزارة العدل الفرنسية إلى تعطيل قرار الإفراج. الأمر الذي أثار حفيظة رئيس هيئة الدفاع عن جورج إبراهيم عبد الله، الراحل جاك فيرجيس، فأطلق عبارته النارية الشهيرة: «إن الإدارة الأميركية تلعب في هذه القضية دور «القوّاد» لحساب المنظمات الصهيونية. وها هي فرنسي ترضخ لابتزاز القوّاد الأميركي كأي مومس!».
وفي نيسان 2012، تدخلت ادارة الرئيس باراك أوباما بدورها لمنع الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله، وفقا لما كشفته مجلة «ماريان » الفرنسية، آنذاك، حيث نقلت عن مصدر في الخارجية الأميركية أن «الرئيس أوباما يعارض بحزم إطلاق جورج ابراهيم عبد الله، وقام بإبلاغ نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي رسميا بذلك».
وقد جاء الفيتو الأميركي الجديد على إثر قرار صدر عن وزارة العدل الفرنسية، مطلع العام 2012، اعتبر أن «جورج عبد الله استوفى كل الشروط اللازمة لإطلاق سراحه، بعد أن قضى أكثر من 27 سنة في السجن، وكان دوما سجينا حسن السلوك». الأمر الذي اعتُبر بمثابة «ضوء أخضر سياسي» يسمح ـــ أخيراً ـــ بتنفيذ قرار الإفراج الذي أصدرته الإدارة القضائية لصالح جورج إبراهيم عبد الله، منذ 2003. لكن «القوّاد» إيّاه عاد فعطّل مسار العدالة الفرنسيّة.