قبل أمتار من موقع الجريمة، مفترق صغير يقود إلى باحة خلفية. يوجد خمسة كراسيّ لخمسة أشخاص. الشجرة في مكانها، الأوراق ترفرف بلا اعتراض. في المنتصف، طاولة بلاستيكية بيضاء، يضع عليها العمال أحاديث النهار. كانت الكراسي فارغة، القهوة باردة، الزحمة في الخارج، والقرية صاخبة على غير عادة. لدينا خمسة كراسي لخمس ضحايا في القاع. القاع المرتفعة على نقيضٍ من اسمها. في الرابعة فجراً بدأ كل شيء، عندما اكتشف أحد الرجال "حرتقة". وعندما علم الضيف المتفجّر بصحبة أصدقائه المستلبين بأحزمة البؤس، أن المنادي من استخبارات الجيش أطلقوا النار. والقصة نفسها تتكرر منذ أمس، على ألسن المستغربين من القرية، الأمنيين القلقين، والصحافيين الذين يصيغون القصة على مزاجهم. قد يضيفون إليها "نكهة" طائفية: القرية مسيحية. هذا الاكتشاف اللبناني الساحر. وقد يضيفون إليها نغمة العداء للنازحين. لماذا يظن اللبنانيون أن الألم يسوغ العنصرّية؟ الإجابة في مكانٍ آخر. النازحون نازحون، والضحايا الأبرياء في القاع ضحايا أبرياء. القصة هي القصة. لا تحتمل أن تصير سردية، ولا يجب التغافل عن أبعادها. القصة الأسهل، وربما الأصدق، تسمعها عن لسان القاعيين.نحن في الرابعة فجراً. إطلاق نار، ثم انفجار. الانتحاري الأول. أيقظ الانفجار القرية النائمة من سبات الصيف. تجمّع النائمون، فانفجر الانتحاري الثاني، وبعده الثالث. صاروا ثلاثة. ثلاثة انتحاريين في القاع. وارتفع صراخ القرية فوق أهلها. قتلى، جرحى، صفارات إسعاف تصل متأخرة، إلى موتها وإلى موت الآخرين. كان بانتظارها انتحاري رابع. وهذا آخر ما يمكن رؤيته من خلف الشريط الفاصل الذي وضعه الجيش اللبناني. الحصيلة، حتى العصر، ٥ شهداء، ١٧ جريحاً، بينهم ٥ عسكريين، "٣ من المخابرات و٢ درك"، يؤكد لنا أحد العسكريين، وكان مجهزاً بعتاد حربي كامل. إننا الآن في معركة.
الأهالي غاضبون. الصدمة كبيرة، لكن الأبونا، كما يسمّيه الجميع، يقول إنها غيمة. غيمة سوداء لا تميّز الرؤوس التي تحتها. لا يحبّ رجل الدين الكاثوليكي أن يبالغ، ولا يحبّ أيضاً التقليل من الخسارة. قبل بضعة أعوام سقطت صواريخ على القرية. قبل أربعين عاماً أيضاً حدثت مجزرة. قلائل في القرية هم الذين يرغبون في العودة في شريط ذاكرتهم أربعين عاماً. لكن بينهم من لم ينسَ، فيخلط بين تلك المجزرة وهذه. ستسمع في القرية كلاماً عصبياً، يضع الجميع في سلة واحدة: النظام والشعب واللاجئين والعمال، ما يعني جميع السوريين. كذلك، يوجد القاعيون الهادئون المحبّون للجوار. الجوار البقاعي والجوار السوري. والجوار السوري وحده قصة. في الدكّان القريب، غاضبون كثر. يتحدثون بأريحية ويحللون. في البداية تفهمهم. يبالغون، يرنون إلى العنصرّية، ولكن، تحاول أن تفهم الأسباب. في منطقة "المشاريع" يوجد ١٢ ألف سوري، هذا معروف وقديم. سرعان ما يستدرك صاحب الدكان: أكثريتهم عمال وطيّبون. وأهل القاع لا يقولون غير ذلك. المشكلة مع الإرهاب، ليست مع الناس. لدى القاع ما يشغلها، في الأصل، غير النازحين. هناك مشاكل في المياه يا سعادة النائب، رغم أنك أتيت باكراً. الكهرباء تحضر كل ٤ ساعات، وتغيب في الأربع ساعات ٤٠ مرة. انظر إلى السهول التي تبحث عن مشاريع حقيقية، يا معالي الوزير، لا عن مشاريع كراهية بين اللبنانيين والسوريين. صاحب الدكان ليس طوباوياً، ولكنه عقلاني. يقول إن سكان القرية الدائمين هم ٣ آلاف قاعي. جاره العدائي يدعو إلى التسلح والتسليح. يضع مسدساً على خصره وهو يعرف أن لا أحد سيسأله عن وظيفة المسدس في وضح النهار. يحاول الرجلان الوصول إلى تسوية: الله يمرّقها ع خير. ما حدا ع راسو خيمة. كلام لبنانيّ مألوف، ولكنه ودود، ولا تصل حدّته إلى القلب، كما هي الحال في صالة الكنيسة. في الصالة، يوجد مفاجآت.
النائب القواتي المعروف في البترون، يصافح النائب السوري القومي البقاعي

النائب أنطوان زهرة جاء من البترون، شخصياً، للوقوف إلى جانب الرفاق القواتيين في القرية الحدودية. القرية قواتية بلدياً، وعلى رأي قواتي من القرية، تاريخياً. ذلك رغم وجود قوميين سوريين اجتماعيين فيها. في الصالة، نسوة يبكين بقسوة. الأسود يفطر القلب. الصوت أقوى من الأسود. حزن يلف المكان. يخترقه النائب القواتي فجأة.
نهض أنطوان زهرة من مكانه، وتوجه لمصافحة مروان فارس. النائب القواتي المعروف في البترون والشمال، يصافح النائب السوري القومي الاجتماعي البقاعي. ولكي تزداد الصورة سوريالية، كان المسلّحون التابعون لهذا وذاك يتجولون خارج صالة الكنيسة، ويقومون بجوٍّ يفترضونه أمنياً. المصافحة التاريخية تحدث في القاع، على بعد أربعين عاماً من أول دخول للجيش السوري إلى لبنان، وعلى بعد ساعات من أول تفجير انتحاري "معارض" يستهدف القاع. القرية الوديعة كانت محطة لخمسة مقيمين قبل انتقالهم إلى الإقامة في مكان أرحب. اختفى هؤلاء، ولم يبق إلا أصوات أمهاتهم في صالة الكنيسة. الحدث الآن ينتقل من الواقع إلى الشاشات. من المأساة إلى الاستثمار في الدم السياسي. الضحايا ضحايا، والسياسيون سياسيون. الضحايا يموتون، والسياسيون يستثمرون. الحزن للقرية المتشحة بحرمانٍ تاريخي، والحديث باسمها، للذين يأتون من بعيد.
لم تكتمل المصافحة التاريخية بين القومي والقوات في الكنيسة، إلا بحضور "عرّاب" جميع المسيحيين في لبنان والمشرق. هكذا وصل موكب وزير الخارجية، جبران باسيل. موكب ضخم. سيارات سوداء ضخمة، كما تكون المواكب عادةً. لكنه لم يتجه إلى الصالة، بل توجه مباشرةً إلى قلب الحدث. ذهب إلى سيارة الاسعاف التي طالها التفجير، وكاد مرافقوه يشتبكون مع الجيش. المسؤول عن نقطة العبور أبلغ المرافقين أنه لا داعي للقلق، فالوزير في حماية الجيش. وافق المرافقون على مضض ولضيق الوقت. فالوزير، وبعد "المعاينة"، عليه أن يلقي كلمة لوسائل الإعلام. ويجب أن يقول في كلمته إن المسيحيين ليسوا خائفين، وإن السوريين ليسوا "محمودات" كلهم. وليس مستغرباً حضور وزير الخارجية إلى منطقة "داخلية" بامتياز، على ذات القدر من الاستغراب لغياب وزير الداخلية. المشوار طويل؟ ربما. ولكن الطريق إلى القاع جميلة وفيها ما يشبه الزينة والفولكلور اللبناني، إذ يقتضي الوصول إليها المرور بجبال لبنان، التي شكلّت لبنان التاريخي، قبل لبنان الكبير. لبنان التاريخي هو جبل لبنان الذي ستمرّ عبره في الطريق إلى القاع. والطريق جميلة فعلاً. ستجد شعارات تؤيد الجيش. وثمة منازل فارغة في بحمدون لكنها جميلة. وللأسف، يوجد سيارات إسعاف عائدة من مكان الحادثة، التي يجب أن لا ننسى أنها كانت محطة. الطريق إلى الجنة طويل، وعلى الجميع أن ينتظر.