البداية من غوسطا. على بعد ثلاث دقائق فقط من الأوتوستراد تضيق الطريق ويزدحم جانباه بالأشجار، وتظهر بين حرج وآخر منازل مرّ على بنائها أكثر من مئة عام، فيما تربط أدراج رمادية الأحياء بعضها ببعض. ولكل حي كنيسة عمرها أكثر من أربعمئة عام ونبع مياه وكومة دكاكين وبضع شرفات تشعر من يدخل غوسطا بأنه انتقل إلى عالم آخر. عالم مشابه لتلك القرى القريبة من روما أو لشبونة التي يحذر الإيطاليون والبرتغاليون ضيوفهم من عدم زيارتها. وهذا المكان اللبناني الآخر ينتمي إلى زمن آخر، سواء بطبيعته الخلابة وعمارته أو بعنوان معركته السياسية الواضحة. ففي أوروبا، لم يبقَ من "الكونتات" سوى قصورهم، فيما الكونت فريد هيكل الخازن لا يزال هنا حياً يُرزق، نفوذاً وخدمات. وقد اتخذت المعركة ضد النائب السابق في معقل آل الخازن الرمزيّ طابع الأحزاب ضد الإقطاع. فرئيس المجلس البلدي زياد شلفون المحسوب على الخازن يسمح للباطون الفوضوي بالتسلل إلى البلدة الجميلة وإلحاق أضرار جسيمة بالطبيعة الاستثنائية ويتحمل مسؤولية تغييب غوسطا عن الخريطة السياحية، رغم أن "ميدانها" يكاد يوازي ميدان إهدن بجماله أو يتفوق عليه. وفيها ما يكفي من الأديرة لتحويلها إلى مركز مؤتمرات ينافس عين الصفصافة وضهور الشوير. لكنّ الريس ديناميكي في ما يتعلق بالخدمات الفردية واسمه قوي في البلدة، الأمر الذي شجع الأحزاب على تحييده نسبياً وجعل "محاربة الإقطاع" عنواناً رئيسياً للمعركة. والعنوان جذاب طبعاً، لكن معراب، حيث يقيم رئيس حزب القوات اللبنانية، على مرمى حجر من غوسطا، ومقارنة قصره بقصور الإقطاع القديم لا تخدم "القضية" طبعاً، وكذلك سلوك المسؤولين الحزبيين الذين يفوقون السياسيين التقليديين ويتفوقون عليهم بالعنجهية التي تختزل بأبهى أشكالها في ترداد هؤلاء الدائم: "من لا يعجبه، الله معه، الباب بيفوّت جمل". وما سبق مجرد عيّنة من نقاشات غوسطا أمس بعدما تفوقت البلدة على نفسها حين حولت يومها الانتخابيّ إلى ما يشبه "الرحلة" وسط أحراج الصنوبر التي افترشتها الماكينات الانتخابية. وكان لافتاً في غوسطا، ثم في جونية، أن الأحزاب لم تستنفر ماكيناتها ومحازبيها لنصرة اللوائح الحزبية، حيث توجد معارك جدية. فبقي الحضور في البلدة التي لا يتجاوز عدد ناخبيها ثلاثة آلاف "أهليّة بمحليّة"، وبدا أن ماكينة من يوصفون بالسياسيين التقليديين أكثر حداثة من الماكينات الحزبية لناحية معرفتها بالناخبين وتأمين وسائل الاتصال بهم، ثم وسائل إيصالهم إلى مراكز الاقتراع وتنخيبهم وإعادتهم إلى منازلهم، في ظل ضياع الأحزاب بلوائح الشطب ومراجعتها أكثر من مرة لتحديد من اقترع ومن لم ينتخب بعد.
نسب الاقتراع تراجعت على نحو خيالي خلال ساعات الظهر الثلاث

وفي جونية، كان يمكن رؤية العشرات يتدفقون إلى مراكز اللوائح منذ السادسة صباحاً لتسلم حقائب المندوبين. والمندوبون ثلاثة أنواع: مندوب ثابت داخل قلم الاقتراع يزود بحقيبة فيها قوائم بأسماء المقترعين في قلمه، وأقلام تلوين لتمييز المقترعين ووضع إشارة قرب اسمه تحدد هوية مندوب اللائحة الذي أوصله إلى مركز الاقتراع. مندوب متجول تكون مهمته الرئيسية معالجة مشاكل المندوبين في حال وجودها وجمع قصاصات ورقية من المندوبين الثابتين كل ساعة أو ساعتين وإيصالها للماكينة المركزية حتى يتسنى لها معرفة من اقترع ومن لم يقترع بعد. والمندوبون خارج قلم الاقتراع الذين يوزعون غالباً اللوائح وينتظرون أقرباء أو أصدقاء محددين لتصيّدهم في اللحظة الأخيرة. وباستثناء قلّة قليلة من المتحمسين، فإن معظم هؤلاء المندوبين في أكثر الماكينات يتقاضون أجراً لقاء يوم عملهم الطويل، علماً بأن مندوباً يختلف عن مندوب، سواء عبر اعتراضه أمام رئيس القلم على أي مخالفة تحصل أو من خلال تدخله عند الناخبين قبيل اختفائهم خلف الستارة، وأيضاً في الفرز الليليّ حين يتأكد من عدم حصول أي غش ويوصل النتائج بالسرعة المطلوبة إلى لائحته. وقد شهدت مراكز الاقتراع أول ساعتين تدفق مقترعين، في ظل انهماك ماكينة نعمة افرام بمسألتين أساسيتين: الرد على اتهام العماد ميشال عون للائحته بتلقي الأموال من "مغترب لبناني في أفريقيا" لرشوة الناخبين، ورصد ما سيفعله حليفهم المفترض النائب السابق منصور البون في صناديق الاقتراع. وقد سرت في قرى جونية الأربع منذ الصباح شائعة قوية عن تشطيب ماكينة افرام لرئيس اللائحة فؤاد البواري المحسوب على البون. وبرر المتابعون هذا التشطيب باعتقاد افرام أن سقوط البواري يبرر انتخاب مرشحه الأساسي فادي فياض رئيساً للمجلس البلدي بعدما قبل مضطراً، لا مقتنعاً، التنازل عن رئاسة اللائحة. وكان فياض أشبه بـ"فالي باركنغ" قبالة أحد مراكز الاقتراع منذ الصباح الباكر: يرتدي ثياباً شبه رياضية بدل البذلة الرسمية المعتادة، ويكاد يفتح باب السيارات لناخبيه، ويعطيهم الورقة التي كتب عليها اسمه ويتودد قليلاً إليهم قبل أن يغمز موظفاً آخر في شركات افرام ليتسلم الناخبين عند الباب ويكمل معهم حتى باب القلم. ولا شك أن هذا السلوك الانتخابيّ ينفر البعض، لكنه يفيد مع بعض آخر، علماً بأن غالبية المرشحين تركوا الحياء في منازلهم، وعابوا على رئيس لائحة الكرامة جوان حبيش، في المقابل، حياءه الشديد واكتفاءه بقول ما هو ضروريّ. ورغم حماوة المعركة وكثافة الشائعات وتركيز خصومه على الاستهداف الشخصيّ له، بقي حبيش متماسكاً طوال النهار: يتفقد المراكز الانتخابية الرئيسية، رافعاً معنويات المندوبين في ظل أشعة الشمس الحارقة ويتابع تفاصيل عمل ماكينته ويوصي بالرد على هذه الشائعة وتلك، في ظل استهداف إعلامي واضح للائحته من جميع التلفزيونات، باستثناء المنار والأو تي في. وكانت الصفحة الافتراضية لجونية التجدد قد تحولت أمس إلى عداد ينشر فيديو تلو الآخر بشأن الوقت المتبقي أمام الناخبين، إضافة إلى فيديوات ثمينة توثق اللحظات التاريخية لاقتراع النائب السابق فريد هيكل الخازن وافرام والبون وبواري وآخرين، مع ما يصرّحون به. وبدا واضحاً أن آل افرام لم يتركوا وسيلة إعلانية إلا استخدموها في اللحظات الأخيرة، من وسائل الإعلام التقليدية إلى لوائح الإعلانات على الطرقات وصور المرشحين وشاحنات الإعلان والمناطيد وتطبيق خاص للهواتف الخلوية. ولا شك أن اللائحة استفادت من "شبوبية" فياض وشعبية المرشح سلفيو شيحا وتفوقها في الأفلام الدعائية المشوقة. أما لائحة الكرامة، فردّت بمجموعة مظليين حلقوا فوق جونية طوال النهار، ملوّحين بعلم اللائحة التي رفعت فوق ماكينتها أعلام التيار الوطني الحر والوطنيين الأحرار والكتائب والقوات، فيما تعرضت ماكينة افرام لنكسة معنوية قوية حين غاب نشطاء القوات وأعلامها من أمام غالبية مراكز الاقتراع في جونية بعدما كانت لائحته تعول عليهم للوقوف بوجه العونيين وعدم السماح للبرتقاليين بالاستفراد بالمدينة. وقد أكدت القوات في أدائها أمس عدم انغماسها في معركة ضد حليفها الجديد، من دون أن تخسر ثقة افرام بها. فجيرت أصواتها للائحتهما (القوات وافرام) المشتركة بأقل صخب ممكن. بدوره، اكتفى البون بإلباس عمال النظافة في منزله "تي شيرت" التجدد بعدما "فوجئت بمقاساتها أصغر من أن يرتديها المناصرون"، وهو فوجئ أيضاً بعلب الطعام المخصصة للمندوبين لاحتوائها على مشروبات غازية وسندويشات بعدما كان يظن أن آل افرام سيوزعون نبيذاً وقرباناً. وهو اقترع باكراً نسبياً ليتسنى له التفرغ لرصد المعلومات بشأن تشطيب حلفائه لمرشحيه من دون أن يبين نتائج استقصائه أو يكشف كيف ينوي الرد. ولا شك أن البون الذي اعتاد الوقوع في حفره وجد صباح أمس أن فوز لائحته سيعتبر في الإعلام والصالونات السياسية فوزاً لافرام والقوات اللبنانية بعد عجزه عن القول إنها لائحته أولاً لا لائحتهما. لكنه أظهر مع ذلك تماسكاً كبيراً وثقة بقدرته على اجتراح حل يخرجه من ورطته، في ظل تعويله الكبير على حصول اختراقات متبادلة تدفع العونيين إلى طرق بابه مجدداً.
نسب الاقتراع تراجعت على نحو خيالي خلال ساعات الظهر الثلاث، في ظلّ تكرار نمط انتخابي يكاد يكون عاماً، يتمثل باقتراع الناخبين المتحمسين باكراً، فيما يمر آخرون بمركز الاقتراع أثناء عودتهم إلى منازلهم من الكنائس، وتؤجل مجموعة ثالثة اقتراعها الجماعي إلى ما بعد الغداء العائلي، ويبقى أخيراً من ينتظرون أن يطرق بابهم من يحتاج إلى أصواتهم مهما كان الثمن. وقرابة الخامسة عصراً، تدفق أنصار البون بعد إيعازه لهم، ونزل الخازن وعديله نعمة افرام على الأرض، وبلغت ماكينة العونيين ذروة تعبئتها لتتجاوز الأصوات العونية في صناديق الاقتراع الألفي صوت لأول مرة، يضاف إليهم 400 صوت كتائبي وأصوات حبيش وعائلات المرشحين على لائحته. وعند الساعة السابعة، مع إقفال الصناديق، كان عدد الأصوات في صناديق حارة صخر (معقل آل افرام) قد بلغ نحو 2350 صوتاً، مقابل 1065 صوتاً في ساحل علما (معقل حبيش)، و2900 صوت في غادير (معقل البون) مقابل 3100 صوت في صربا معقل العونيين. وبات السؤال يتعلق بحجم اختراق كل لائحة للائحة الأخرى في معقلها، في ظل ترجيح البون أن تأكل اللائحتان إحداهما من الأخرى، وثقة العونيين بتقدم لائحتهم بنحو مئتي صوت. ولا شك أن المال السياسي الذي يحول دون تكوين فكرة جدية عمّن انتخب من، هو العامل الرئيسي الذي يحول دون تقديم الماكينات نتائج أولية جدية، علماً بأن دخول العماد ميشال عون بشخصه على خط انتخابات جونية جعل ربح وخسارة كل من فريد الخازن ومنصور البون ونعمة افرام والقوات اللبنانية مجرد تفصيل، حيث بات السؤال الرئيسي: يربح العماد ميشال عون في المدينة الرئيسية في القضاء الذي يمثله أم يخسر؟