ــــ «أخيرا ها قد وصل». تمتم عماد مغنية بهذه الكلمات، ثمّ إنه لم يستطع أن يصطبر في مكانه أكثر، فهرول مسرعاً نحو رفيق دربه يمدّ إليه ذراعيه المتلهفتين المشتاقتين. وأشرقت في وجه مصطفى، لما رأى صاحبَه، ابتسامتُه العذبة العريضة التي طالما زيّنت محيّاه. واحتضن الرجلان بعضهما بكل ما كان يعتمل في وجدانهما من محبة وفخر ومسرّة وحنين. وطفق عماد يقبّل رفيقه بين عينيه وعلى وجنتيه وفوق هامته، ويأخذ في تأمّل تقاسيم وجهه، وكأنه لا يصدّق بعدُ أنه قد عثر أخيراً على شقيق روحه الذي فقده قبل سبع سنين. كانت أعوام الأسر الطويلة قد زادت الشاب النحيل نحولاً، لكنّ لمعة العزم والتحدي في عينيه لم تطفئها قسوة القيد ولا ظلمة الحبس ولا غلظة السجان.حدث هذا اللقاء الحميم في يوم شديد الحرارة، أوائل شهر آب 1990. داخل مقر للحرس الثوري الإيراني، على تخوم الحدود التي تفصل بين إمارة الكويت «المحتلة» والجمهورية الإسلامية في إيران. ولقد تداعت الأشواق والذكريات والقصص والأخبار في حديث طويل متصل بين الصديقين امتد سويعات. استذكرا فيه معا أيام رصاصات النضال الأولى في صفوف المقاومة الفلسطينية، ثمّ أيام التصدي للغزو الإسرائيلي للبنان.
لم يكن مصطفى وصاحبه عماد بلغا الثامنة عشرة يوم قرّرا، بملء إرادتهما، أن ينضما إلى صفوف المقاومة الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي. وعَى الشابان باكراََ هدفي حياتهما وغايتهما، فجنّدا نفسيهما منذ سنوات الصبا لمهمة جليلة اسمها تحرير لبنان وفلسطين. في سفوح تلال جنوب لبنان، وبين أوديته ومزارعه ومكامنه، ظلّ مصطفى وعماد جنديين متطوعين يرابطان بصبر على تخوم العدو، ويحرسان بيقظة ثغور المقاومة، ويتدربان بمثابرة على صنع العبوات التي تنسف المحتلين الصهاينة. وسريعاً ما لمع نجم الشاب الوسيم مصطفى كواحد من أفضل خبراء المتفجرات في "قوات الـ17" ذراع حركة فتح الضاربة بين فصائل الكفاح الفلسطيني.
وعَى الشابان باكراََ هدفيهما وجنّدا نفسيهما منذ الصبا لمهمة جليلة اسمها تحرير لبنان وفلسطين

امتدت فترة الرباط في الجنوب اللبناني أكثر من عامين، إلى أن حدث الغزو «الإسرائيلي» للبنان صيف عام 1982. عندها انتقل الرفيقان إلى بيروت من جديد ليقاتلا العدو مع غيرهما من الفدائيين. جُرح مصطفى جرحا خطيرا في ساقه في معركة خلدة. وأعاقته إصابته الجسيمة عن استكمال القتال، فيما أكمل عماد إلى نهاية المطاف. ولقد كانت تدور بين الرفيقين وصحبهما أحاديث طويلة، في ليالي الصيف المديدة، عن حجم التواطؤ الغربي والتخاذل العربي والتآمر المحلي في العدوان الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية لاقتلاعها من معاقلها في جنوب لبنان. وزادت هزيمة القوى الوطنية في خريف 1982، وعي الشباب نضجاً وخبرة بطبيعة الأعداء المعقدة وبأدواتهم القذرة في الصراع. لقد كانوا حقا مشتبهين عندما حسِبوا أنّ الخصوم الفعليين للمقاومة هم صهاينة الكيان الغاصب وحدهم. لكنّ الحقيقة أنّ «سوى الروم خلف ظهورهم روم».

وراء العدوّ في كل مكان

قرّ في أذهان الشباب المجاهدين أنّ الصراع يجب أن يكون أكبر وأوسع وأشمل، وأنّ المقاومة يُفترض بها أن لا تكتفي بمجالدة مخالب الوحش وأنيابه، وأولى بها أن تُدمي رأس الوحش نفسه وهامته... في تلك الأيام، اجتهد الفتية الذين آمنوا بربهم أن يكللوا صدق نواياهم بصدق صنيعهم. فكانت عملية فاتح عهد الاستشهاديين أحمد قصير ضدّ مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي عند بوابة صور، في 11 تشرين الأول 1982 (وقد أدّت إلى مصرع 141 جندياً وضابطاً إسرائيلياً بينهم الحاكم العسكري نفسه). ثمّ أردِفت عملية مدينة صور ضد الصهاينة، بمحرقتين استهدفتا جنود المارينز الأميركيين وقوات المظليين الفرنسيين، في 23 تشرين الأول 1983 (وأدتا إلى مصرع 241 جنديا أميركيا، و58 جنديا فرنسيا). قبل ذلك، استهدف الفتية ما اعتبروه «وكر الجواسيس» في السفارة الأميركية في بيروت، يوم 18 نيسان 1983، (أسفرت العملية عن مصرع 63 جنديا وضابطا أميركيا). وأدّى نجاح كل هذه العمليات ضد الأعداء في بيروت وفي جنوب لبنان، إلى التفكير بطموح أكبر وخيال أوسع: «لماذا لا تتمّ مطاردة الأميركيين في كل جحورهم في المنطقة العربية؟!». كانت تلك فكرة أقرب إلى الخيال والحلم، لكنّ الفتية المؤمنين ــــ بعد أن اشتد ساعدهم ــــ ما عاد يهمّهم هول ولا خطر!
بعد شهر فقط من عملية المارينز، دخل مصطفى بدر الدين إلى الكويت في أول أيام كانون الأول 1983، بجواز سفر لبناني يحمل اسم إلياس فؤاد صعب. كان الهدف وقتها ضرب مصالح العدو الأميركي في «بؤرة مطامعه، ومركز مكائده» في الخليج العربي، من خلال استهداف ما اعتبر وكره المتجسد بالسفارة الأميركية في الكويت. وفي يوم 13 كانون الأول 1983 تم استهداف سفارة الأميركيين، وكانت ضربة جريئة وقاسية ومذهلة لم تخطر في أذهان رجال «السي آي إيه»، ولا في حساباتهم. جنّ جنون أميركا وأعوانها في الخليج. وأغلقت حدود الكويت على من فيها، وقامت سلطات آل الصباح بحملات تفتيش وملاحقة واسعة النطاق لكل من يشتبه بهم. وبعد شهر كامل من المطاردات، وبمساعدة الأجهزة الأميركية، اعتقلت الخلية التي نفذت عملية استهداف سفارة أميركا في الكويت، وكانت تتكون من سبعة عشر عنصرا، على رأسهم إلياس صعب. في المعتقل الكويتي، مورست على الشاب النحيل صنوف من التعذيب الوحشي، ووصل الأمر بالمحققين الأميركيين والكويتيين إلى سحق ساقه التي أصيبت في معركة خلدة ضد الإسرائيليين. لكنّ كل ذلك العذاب لم يستطع أن ينتزع من الشاب سراً واحداً، ولو كان اسمه الحقيقي: «مصطفى بدر الدين»!

نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون

حُكم على إلياس صعب في محكمة «أمن الدولة» الكويتية بالإعدام بتهمة تدبير هجمات ضد المصالح الأميركية، وأودع الشاب اللبناني السجن المركزي تمهيدا لتنفيذ الحكم به. لكنّ «إلياس» ظل طول الوقت رابط الجأش قويّ العزم صعب المراس. بل إنّ الشاب السجين كان يعبث بسجانيه الكويتيين ويتسلى بهم. ومن أمثلة تلاعب «إلياس» بالسجانين، أنّ الحراس كانوا يعانون يوميا من صعوبات جمّة في فتح قفل زنزانته بسبب قيامه بإذابة حبر أقلام «البيك» في الأقفال.
أمّا في لبنان، فقد ظلّ رفيق الدرب عماد مغنية يسعى بكل ما أوتي من قوة وعزم لإنقاذ أخيه مصطفى من الأسر. لم يترك الرفاق وسيلة للضغط على الحكومة الكويتية إلا وقاموا بها. واضطرهم الأمر، مثلاً، من أجل إجبار آل الصباح على إطلاق سراح بدرالدين ورفاقه، إلى اختطاف الطائرة «كاظمة» التابعة للخطوط الجوية الكويتية، ثم الطائرة «الجابرية» (وكان على متنها اثنتان من أخوات الشيخ جابر الخالد الصباح وزيرالداخلية الكويتي السابق). كان الكويتيون محرجين جدا بسبب كل تلك الضغوط التي صنعها لهم عماد مغنية وأصحابه، لكنّ حرج آل الصباح ظلّ أكبر مع الأميركيين، فلم يكن بوسعهم أبدا عصيان واشنطن، أو إطلاق سراح الرجل الذي قام بتفجير سفارتها من سجنهم.
لكنّ قصة أسر مصطفى انتهت بصورة مفاجئة، وفي ظرف لم يخطر على بال الجميع. فيوم 2 آب 1990، وحينما كانت العائلة الحاكمة الكويتية تفرّ بجلدها نحو بلدة الخفجي الحدودية السعودية هاربة من جحافل صدام حسين الغازية للكويت، كانت الفرصة سانحة، في خضمّ الفوضى التي ألمّت بالإمارة الصغيرة، لكي يخرج مصطفى من محبسه. تمكن بدر الدين أخيرا من الخروج من السجن، والتوجه نحو الحدود الإيرانية. وفي وقت لاحق، أعاده الحرس الثوري الإيراني إلى بيروت حيث كان رفاقه المجاهدون ينتظرونه بفارغ الصبر، ليلتئم به جمعهم.
يوم عاد مصطفى بدر الدين إلى عرينه لم يرتح، لأنّ قصة جهاده لم تنته بعد. سريعا ما افتتح الرجل فصلا ثانيا من فصول كفاحه ضد أعداء أمّته. وكذلك تقلد السيد «ذو الفقار» مسؤولية جديدة جسيمة في المجلس الجهادي في حزب الله صحبة رفيق دربه «الحاج رضوان». كانت تلك مهمة عزيزة على قلبه، وقد تكللت بنصر تحرير جنوب لبنان، ثم بنصر حرب تموز 2006.