«إنني عدت من الموت لأحيا وأقاوم» (محمود درويش)
هذه الابتسامة العريضة، المحيّرة، المحرجة، المُعدية. تحاول أن تتفاداها. تحاول أن تتجاهلها. لكن سدىً. تضطر عاجلاً أو آجلاً إلى مبادلتها بالمثل. إنّها مجرّد ابتسامة في صورة، التقطت في لحظة محددة، في ظرف معيّن. يبدو مصطفى بدر الدين بسترته العسكريّة والكاسكيت، على منصّة ربّما، مسترخياً، متصالحاً مع نفسه، واثقاً من قدراته، سيد الموقف، مسيطراً على ما حوله. ليس شبحاً إذاً، بل رجل يشبه رجالاً آخرين تصادفهم كل يوم. شاب، كبر في غمار المعارك، تكوّن في خنادق المقاومة. تحدّق في عينيه، تتحسّس سنواتك الـ 55، تستحقّها فجأة. تخجل من نفسك، وتسأل: ماذا فعلت بكل هذا العمر؟ «الشاب» الذي من عمرك، شدّك إليه، ورّطك بابتسامة. تتأمّل مراراً في صف الأسنان البيضاء المتناسقة. تحاول أن تلتقط تلك النظرة الطالعة من محجرين مضطرمين. أن تفكّك شيفرتها. المقاومون لديهم دائماً أسرار كثيرة. ابتسامة مصطفى بدر الدين تريحك، تطمئنك، تنظف الأعماق من أدران السموم الكونيّة الجارية الآن من تحت أقدامك. تفكّر بكل ما قرأته وسمعته عن ذلك الرجل، منذ الصباح، على الشاشات المختلفة. هل «زير النساء»«الشرير» «القاتل» الذي يعي كل أخيار الكرة الأرضيّة خطورته، من الإعلام «الديمقراطي» الغربي إلى أحمد فتفت، ويعرف الطيّبون بالتفصيل المملّ «مغامراته»، ويستظهر أصحاب الأيدي النظيفة «جرائمه» بثقة عن ظهر قلب… هل هذا هو الرجل الذي يقف أمامك في الصورة؟
يروي من عرف مصطفى بدر الدين، والتقاه خلال الأشهر الأخيرة، أنّه كان هادئاً، مرحاً، ضاحكاً مفعماً بالحياة. ويفسّر أحد الأصدقاء، أنّه كان يعتبر الأيام والساعات التي يعيشها، زائدة على حياته، مستقطعة من الموت المتربّص، موت يفترض أنه أتى من زمان. هذا الموت الذي يلاحقه بلا هوادة، هذا الموت الذي راقصه ذو الفقار بمكر، لاعبه وأغاظه واستفزّه وتحدّاه. كان يعرف أنّه هنا جالس إلى جواره. هكذا ربح الطمأنينة غالباً. إنّها صورة المقاوم المثاليّة: يقاتل من أجل السعادة والعدالة والحق، من أجل الحياة، فكيف لا يحبّها؟ وكيف لا يقبل عليها، متصالحاً مع الموت، متخاوياً معه؟ في قصيدته الشهيرة «البهلوان» يخاطب جان جينيه صديقه عبدالله. ينصحه أن يموت قبل أن يخطو خطوته الأولى على الحبل المعلّق في الفراغ. يقول له إخرج في رحلتك القاتلة ميتاً، كي تتحصّن ضدّ الموت وأنت تجتاز المسافة الفاصلة بين برَّيْ أمان. هل نقتل الموت حقاً حين نتجاوزه؟ حتى حين يصل أخيراً على حين غرّة؟ ها هو الوجه المنفرج الأسارير، ها هي البسمة المضيئة، المكشوفة لنا أخيراً، بعد فوات الأوان، تؤكّد هذا الكلام.
تحدّق في هذا المقاوم الباسم، ولا تستطيع تحديد مشاعرك. في الظاهر لا شيء يجمعكما ـــ بالمعنى الاجتماعي والثقافي والفلسفي ـــ إلا السنّ. فلماذا تشعر أن هذه الابتسامة لك؟ لماذا تتصوّر أنّك هنا، واقف في المقلب الثاني من الصورة، كأنّك العدسة؟ لماذ تشعر أن حديثاً شيقاً وطويلاً دار بينكما، حول مصطبة أليفة؟… كل الذين استلّوا سكاكينهم المسمومة، كل الذين بلّوا أقلامهم بحبر الحقد والارتزاق والتعصّب، يقفون وراءك الآن. لا تلتفت! دع الابتسامة تفعل فعلها. كل الابهامات المكسورة التي تشير إلى هدف غائب، كل الأصوات الناشزة التي تعدد الجرائم، وتصدر أحكامها المبرمة، من دون حاجة إلى قوانين وقرائن وقضاة… تصطدم بالصورة، تنزلق عليها وتسقط. معك حق إذاً: ليبقَ نظرك مسمّراً إلى الصورة. هناك «جريمة» واحدة تستحق عقاب العالم أجمع! فلتقف وحدك ضد العالم أجمع. تأمّل في الإسم الذي صار وجهاً، في الوجه الذي صار صديقاً، ولمّا تتوقّع ذلك. الطريق طويل وشاق ومحفوف بالمخاطر. ستحتاج كثيراً إلى هذه «الذخيرة»، أنت وكل الواقفين ضدّ الاستعمار (نسيتم الكلمة؟ أعرف، لم تعد على الموضة. عذراً!). إحفظوا جيداً ابتسامة مصطفى بدر الدين.