أثناء زيارته الأخيرة إلى بيروت، سألت ريتشارد مورفي عن إبرامه اتفاقه الشهير مع حافظ الأسد، في 17 أيلول 1988، والذي سمي لاحقاً «الضاهر أو الفوضى». فإذا به يستطرد في كلامه ليقول إنه لم يلتق ميشال عون في ذلك الأيلول. بل التقاه مرة واحدة في حياته، في أيلول سابق بأربعة أعوام. كان ذلك في اليوم التالي للاعتداء بواسطة سيارة مفخّخة، على السفارة الأميركية في عوكر، في 20 أيلول 1984. جاء مورفي من واشنطن بصفته مساعداً لوزير الخارجية الأميركية للاطمئنان إلى دبلوماسييه. وجاء عون إلى عوكر نفسها، بصفته قائداً للجيش وللسبب نفسه.
«هناك التقيته»، روى الدبلوماسي الأميركي العتيق. «تحدّثنا في مسائل عدة. قبل أن اسأله عن استحقاق رئاسة الجمهورية». بين هلالين، كان الاستحقاق المذكور لا يزال يبعد أربعة أعوام، أي سنة 1988. وكان عون قائداً للجيش منذ أربعة أشهر فقط. وكان مورفي هو نفسه من شهد من موقعه سفيراً لبلاده في دمشق، دخول الجيش السوري إلى لبنان سنة 1976، كما يشهد عليه كيسينجر في كتابه «أيام التجدد»، وكما ينفي مورفي دوماً مسؤولية تواطئه، رامياً عتبه على ذاكرة رئيسه السابق... نقفل الهلالين، تابع مورفي روايته: «سألت عون عن رأيه الشخصي في الاستحقاق الرئاسي. فأجابني ما حرفيته: كل ستة أعوام يكون لبنان على موعد مع استحقاق لرئاسة جمهوريته. لكنه كل مئة عام أو أكثر ربما، يكون لبنان على موعد مع استحقاق لتحرير دولته. أنا لست معنياً بالاستحقاق الأول، بل بالثاني». أنهى عون كلامه وفق رواية مورفي، وأنهى مورفي روايته، وأنهت واشنطن يومها البحث مع جنرال اليرزة في الموضوع.
مضى عقدان وعام وشهر على تلك الحادثة، ليزور رئيس تكتل التغيير والإصلاح، ميشال عون، واشنطن في تشرين الأول 2005. في مبنى أيزنهاور، أو المبنى التنفيذي في البيت الأبيض، كان الرجل على موعد مع أحد أبرز صنّاع سياسة الدولة العظمى يومها. على مدى ساعة ونيف، تباحثا في شؤون المنطقة كافة. تحدثا في أوضاع البلدان المحيطة، وفي مستقبل لبنان وأفقه بعد استعادته سيادته. كان الاستحقاق الرئاسي مطروحاً من زاوية انتخابات رئاسية مبكرة ورحيل إميل لحود. استنفد الرجلان الوقت والكلام. إلى أن قال الأميركي عبارته المكبوتة: «وماذا عن الانتخابات الرئاسية عندكم؟». فرد عون: «هذا شأن لبناني أبحثه في بيروت لا خارجها. ومع اللبنانيين لا مع سواهم». انتهى الاجتماع، وانتهى الاستحقاق إلى ما وصفته وثائق ويكيليكس. ولو قدر لذلك المسؤول أن يراسل مورفي يومها، بعد 21 سنة على التجربة، لكتب له كلمتين اثنتين: لم يتغير!
بين التاريخين والاستحقاقين، كان رفيق الحريري ذات يوم من أواخر شباط 1989 إلى مائدة حافظ الأسد. وكان في لبنان شغور رئاسي وسباق محموم من أجل ملء الموقع.

ثمانون عاماً أمضاها الرجل مزعجاً وعاش أكثر من نصفها متهماً

سأل «الوسيط السعودي» يومها الرئيس السوري: إلى متى يستمر الفراغ الرئاسي في بيروت؟ فأجابه الأسد: ليس بالضرورة أن يطول. يمكن أن ينتخب رئيس قريباً. استثيرت حشرية الحريري، فسأل: ومن يكون؟ فأجابه الأسد: ممكن ميشال عون. فعقب الضيف: هل يمكنني أن أنقل إليه هذا الكلام؟ فرد المضيف بالإيجاب. أنهى الحريري طعامه بسرعة، وسارع إلى إبلاغ شاهدين لا يزالان حيين، على ما جرى بين الراحلين. وصل أحدهما خلال ساعات قليلة إلى قصر بعبدا، حاملاً البشرى. زفّها إلى رئيس الحكومة عون، وكأنها خاتمة الكلام والأحداث. لبث عون مفكراً ثواني، قبل أن يقول للرجل: حسناً، الرئاسة لي إذن. لكن لمن ستكون الجمهورية؟! خرج الموفد خائباً، بعدها خرج الأمر من أيدي الجميع، حتى أخرج عون من بعبدا ومن لبنان... يومها لو قدر للمعنيين بتلك الحادثة أن يكتبوا إلى الأميركيين السابقين، لكرروا الكلمتين نفسيهما: لم يتغير!
ثمانون عاماً يعبرها الرجل. أكثر من نصفها عاشه متهماً. سنة 1969 ألقى طرفة أمام زملائه من الضباط، فارتعبت قيادة الجيش بكاملها من كلام نقيب. سنة 1975 اتهم بالتحضير لانقلاب عسكري يبدأ من صيدا ويجتاح بيروت. أرسلوا إليه وفداً عسكرياً رفيعاً ليطلعوا على حقيقة نياته، قبل أن ينتهي الموضوع بغداء، وبكلام من الضابط عون إلى رؤسائه: كيف تشكّون في ولائي، وفي ذكائي؟! فاستدركوا وعادوا. سنة 1980 اتهموه في سرهم بسطوع نجمه، فنفوه إلى دورة عسكرية في فرنسا. مطلع سنة 1984، كرروا المحاولة. سأله وزير الدفاع يومها عصام خوري، هل يقبل الإبعاد مجدداً؟ فقال له العميد عون: طالما أن الطلب يفرض عليّ الالتحاق خارج البلاد في تموز المقبل، فلا تقلق. يمكنك أن توقّعه. فحتذاك التاريخ، إما أن يكون البلد قد انتهى، وإما أن أكون قد اصبحت في موقع يمكنني من تمزيق الطلب بيدي ... لم يصح إرهاص عون الأول حول نهاية بلد لا نهاية له، ولا نهاية لأزماته. لكنه صار قائداً للجيش قبل سريان نفيه المقنّع، وحرص على تمزيق ورقته شخصياً.
ثمانون عاماً عاشها الرجل. أمضاها كلها في موقع المزعج. مزعج هو في كل تفصيل من حياته. في أن يكون ابن فلاح يقفل كل البيوتات. مزعج في أن يكون الفقير الذي لم تهزمه الثروات. مزعج في أن يجتاح كل المساكن وهو يسكن في منزل بالإعارة. مزعج أن يقول عنه حسن نصرالله أن دَيْنه في عنقه حتى يوم القيامة، فيما السيد يحكم نصف المنطقة، أو يكاد، أو أكثر. مزعج أن يقود له بشار الأسد سيارته في شوارع دمشق، هو من قاد ضد والده أشرس حرب في بيروت. مزعج أن يقدم فجأة صوب سعد الحريري، فتصير زيارته عيداً وميلاداً... ومزعج خصوصاً أن يظل هو هو في كل هذه، وأن يظل شعبه معه أينما كان.
ميشال عون الثمانيني المزعج، يبتسم حين يروي لك كل تلك. كما قدّر لي أن أسمعها منه طيلة عشرة أعوام ومئات الأيام. منذ أشهر قررنا أن نوثقها، بالصوت والصورة. فجأة طرأ تعبير جديد على المشهد. غابت البسمة في محطات. حلّت محلها غصّة وعَبَرات. مرة حين روى لي اجتماع بعبدا في 3 أيلول 1983. يومها جاؤوا ليبلغوا أمين الجميل رئيس الجمهورية، بأن عليه أن يترك القصر. لأنه خلال ساعات ستكون القوات السورية وحلفاؤها قد اجتاحت الجبهة وصارت في بعبدا. سأل الجميل العقيد عون الذي كان حاضراً متفاجئاً بما يسمع. فوقف عون متوجّهاً إلى الرئيس بالقول: أنا صاعد الآن إلى سوق الغرب. حين تسمع أن اللواء الثامن أبيد، وأن العقيد عون استشهد، عندها فقط تترك قصر بعبدا!
غصة ثانية حين تسأله عن أبو نعيم. لماذا لم يزره منذ 13 تشرين الأول 1990 وحتى عودته في 7 ايار 2005. تخنقه ذكرى شقيقه الأكبر. يردد بكلمات خافتة: لم يشأ أن يراني مهزوماً. ترك عنده صورتي منتصراً، حتى عدت...
غصة ثالثة في عيد ميلاده الثمانين في 18 شباط الماضي. حين استعرض في ذاته مساره ومسيرته. حبس عبرته بتلك القحة التي تبدو عونه على الدمعة، قبل أن يهمس: كنا دوماً مخيّرين بين اليأس والجنون. وقد اخترت دوماً الجنون لأنتصر على اليأس!
ميشال عون، المزعج المجنون، أنت مستحِق.