«الكيمياء» ليست مفقودة بين الرئيس نبيه برّي ورئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون. حين يلتقي الرجلان تجمعهما «الكيمياء»، ودائماً يجد «المحامي المحنّك» السبيل لتليين مواقف «الجنرال العنيد»، ويبادله الجنرال بـ«لباقة الحديث» و«دماثة الأخلاق». لكنّ الأكيد، أن لا كيميائي في العالم، يستطيع أن يجعل «عنجهية» الوزير جبران باسيل (والوصف لمقربين من بري)، تنزل بخفة على قلب رئيس المجلس النيابي.
يوم اعتصم العونيون وحركيّو «أمل» في ساحتي الشهداء ورياض الصلح لاسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في أواخر العام 2006، كان الرابط بين عون وبرّي أبعد من علاقة «حليف الحليف». رغب برّي في أن ترتقي العلاقة إلى تفاهمٍ من نوعٍ ما، كأنموذجٍ «مخفّف» عن وثيقة مار مخايل الموقّعة بين عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. بادر بري وانتظر، وغضّت الرابية الطرف. ومع ذلك، صمد «السمن على العسل»، إلى ما قبل انتخابات 2009 النيابية.
ومع أن اتفاقاً خطيّاً وقعه بري وعون ونصرالله حول انتخابات جزّين تحت عنوان «ليربح من يربح»، لضمان الاتفاق على ما بعد المعركة التي خيضت وقتها في القضاء الجنوبي وحُسمت لصالح التيار الوطني الحر على حساب لائحة بري، إلّا أن باسيل أعلن «تحرير جزّين»! تحرير جزّين مِنْ مَنْ؟ بالتأكيد أن نواب حركة أمل في القضاء ليسوا العدوّ الإسرائيلي. في سنوات ما بعد الطائف، حرص برّي على معاملة جزّين معاملة خاصة. اختار نوابها من العائلات المؤثرة من دون فرض الأمر الواقع. هرّب إليها الاسمنت السوري بأكياس «الخيش»، كما هرّبه لباقي قرى الجنوب ليتم إعمارها. وحين فاز عون بمقاعدها الثلاثة، أوعز بري لكل «مفاتيحه» بالتوجّه إلى نوّاب التيار الوطني الحر في القضاء، ونقل طلباتهم إليه عبر النواب العونيين، ومنع نواب أمل من زيارة جزّين. «جزّين لعون»... لكن ممن حرّرها باسيل؟ كان التصريح كافياً ليغضب الرئيس.
في المبادئ العامّة، يتفّق بري مع عون على «لبنان دائرة انتخابية واحدة على قاعدة النسبية»، أو قل يتفق عون مع برّي على هذا المبدأ، لأنه السّباق إليه. وفي «التغيير والاصلاح»، يبارك برّي اسم التكتل، لكنّه لا يرى إصلاحاً أو تغييراً، بل «تخريباً وتعطيلاً. العونيون يتمسّكون بأمورٍ تُخالف القانون، ويتصلّبون».
السيادة على البلوكات
النفطية توازي السيادة
على مزارع شبعا وربما أكثر

وحتى الآن، لا يفهم بري لماذا عطّل باسيل عرض تلزيمات بلوكات النفط في البحر، ولم يصدر المرسوم. عدم عرض التلزيمات يعني إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار بسرقة المنطقة التاسعة وجزء من المنطقة الثامنة في البحر. وفي كل مرّة يضطر بري لطلب التدخل من قوات الطوارئ الدولية أو الأميركيين لوقف التعدي على النفط اللبناني. تلزيم النفط من حقّ وزير الطاقة، أي باسيل، في الماضي، والآن. في أحد اللقاءات، سمع برّي من باسيل المثل التالي: «لا يمكنك أن تبني بناية وتعلّق يافطة تقول فيها إن الطابق الخامس للبيع. نقول شقق للبيع أو للايجار. أعرض كل الطوابق وبع لمن تريد». إذا لم يعرض لبنان كل البلوكات النفطية للبيع، تستمر إسرائيل في السرقة وتُثبت الخطوط البحرية التي رسمتها. عند برّي، السيادة على البلوكات النفطية توازي السيادة على مزارع شبعا، وربّما أكثر.
تحمّل برّي. إلى أن أتى موعد الانتخابات النيابية في 2013. انتهت مهلة تقديم الترشيحات، وفاز نصف نوّاب «التنمية والتحرير» بالتزكية، والفوز شبه مضمون للنصف الآخر. الرئيس ليس بحاجة للتمديد. يأتي الرئيس سعد الحريري من السعودية على عجل. على مائدة العشاء في عين التينة، يفاتح الحريري بري بأزمته: لا أستطيع خوض الانتخابات النيابية. يردّ برّي بأن هذه مزحة ثقيلة. يقول الحريري إنه سيستقيل في اليوم التالي هو ونوابه ليثبت أنها ليست مزحة. وقع بري في الهمّ: كيف أجري انتخابات يقاطعها السنّة؟ هل أبادر إلى فتنة سنية ــ شيعية وسط كل هذا الحريق في المنطقة؟ لا يفعلها. حاول التحايل على التمديد. انتزع وعداً من عون بحضوره الجلسة شخصياً والتصويت برفض التمديد، حتى لا يعطي للتمديد شرعية كاملة. «نكث عون بوعده وغاب عن الجلسة». وفي إحدى الجلسات التي كان نائب الرئيس السابق للمجلس إيلي الفرزلي حاضراً فيها بين الرجلين، أنكر عون أن يكون قد وعد بحضور الجلسة، غضب برّي لما عدّه تكذيباً، ثم عاد الجنرال ولطّف الأمور. مارس حزب الله دوره كإطفائي بين حليفيه، ونجحت التهدئة نسبيّاً، إلى أن «بلغ السيل الزبى»، بعد لقاء الحريري ــ عون في العاصمة الفرنسية، وبدأ الحديث عن دعم الحريري لعون كمرشّح لرئاسة الجمهورية.
اللقاء في باريس، لم ينعكس انفراجاً في المجلس النيابي. في جلسة انتخاب الرئيس الأولى، لم يكتمل النصاب. سأل بري عون كم يلزمه من الوقت ليؤجّل الجلسة التالية، حتى يأتي نواب الحريري وينتخبوه رئيساً؟ طلب عون أسبوعاً، أعطاه بري 9 أيام. مرّت الجلسة الثانية ولا نصاب، أجّل برّي 10 أيام أخرى بناءً على طلب عون. بعد الجلسة الثالثة، اكتشف عون مماطلة الحريري، فخرج دخانٌ أسود، وصار المجلس النيابي بنظره «غير شرعي»!
لا يختلف برّي مع صديقه من «الغلطة الأولى»، مع أنها «قاتلة». أرسل مع وسطاء إلى عون بأن هذا الكلام خطير، وقال للوزير علي حسن خليل إن «عون عم يفوت معي بالقزاز بهالحكي». نقل خليل الرسالة لمن يلزم. عاد عون وكرّر حديثه: المجلس النيابي غير شرعي. حتى مناشدة نصرالله العلنية له بوقف القول إن المجلس النيابي غير شرعي، لم تنفع، مع أن بري لم يطلبها من الأمين العام لحزب الله، الذي لعب دوره كإطفائي مجدّداً. لم تعنِ المناشدة شيئاً بالنسبة لعون، فعاد وكرّر: المجلس غير شرعي! شبه انكسرت الجرّة. إذا صوّت المجلس النيابي لعون رئيساً، يكون المجلس شرعياً، وإذا لم يفعل، يكون غير شرعي. سمع زوار عين التينة بري يقول: «لن يأخذ عون أصواتي بعد الآن حتى ولو أجمع كل لبنان عليه رئيساً».
أتى ترشيح الحريري للنائب سليمان فرنجية رئيساً. برّي كان ثاني من يعلم باللقاء، بعد حزب الله. بعد جلسة الحوار الأولى في عين التينة، لم يبقَ فرنجية على الغداء، واعتذر من بري حوالي الساعة الثالثة، ليلحق طائرة
الـ«Air France» المتوجّهة إلى باريس عند الرابعة، وترك لبري رسالة مع خليل. بعد الغداء، يبلغ خليل برّي بفحوى رسالة فرنجية: ذاهب إلى باريس للقاء الحريري الذي سيرشّحه لرئاسة الجمهورية. لم يصدّق بري، وسأل إن كان فرنجية قد أبلغ حزب الله، فردّ خليل: «مبارح خبّرهم». في اليوم التالي، قرأ بري ان رجل الأعمال جيلبير الشاغوري جمع الحريري وفرنجية. عزّ عليه أن يكون صديقه الشاغوري قد أخفى عنه الأمر. اتصل الشاغوري بعين التينة مراراً لتوضيح الأمر، لكنّ بري كان «مش هون». في المساء، ردّ برّي على اتصال الشاغوري، ليسمع التوضيح بأن فرنجية طلب منه مرافقته على العشاء عند الحريري، لأنه لا يريد أن يكون وحده معه ومستشاره النائب السابق غطاس خوري ومدير مكتبه نادر الحريري، موضحاً أنه لم يكن على علمٍ بالموضوع. اتهم العونيون بري بتدبير الترشيح من دون دليل. عندما التقى عون بالحريري لم يكن بري على علم، وعندما التقى الحريري بفرنجية لم يكن بري على علم.
مسألة أخرى، لم يتوقّف عندها بري: طرح عون للفدرالية. فبعد «القانون الأورثوذكسي»، لم يعد طرح الفدرالية مفاجئاً. لكن بري لا يحمّل هذا الموقف لعون. وراءه الفرزلي. لكن ما يقلق برّي هو الوصول بطرح اللامركزية الموسّعة إلى لامركزية أمنية أو مالية.
كيف ينتهي الجفاء؟ «اللي طلّع الحمار على الميدنة، ينزّله. ليعتذر عون عن طعنه في شرعية المجلس». العونيون لا يزالون يكرّرون بأن المجلس غير شرعي، وبري يُستفز. وإذا لم ينتهِ الجفاء، بري لا يريد أن يقاتل أحداً. وهو في موقفه أول من أمس (عدم الدعوة لعقد جلسة تشريعية) كان يراعي عون وحده. القوات اللبنانية في الأصل تقاطع، والكتائب خمسة نواب. بري يريد أن يعود عون إلى المجلس ليكون المجلس ميثاقياً، ويشعر المسيحيون بالشراكة الحقيقية.