أن تخضع شخصية بِهامة سمير القنطار للجدل وللأخذ وللرد حول دوره وتاريخه النضالي ومن أجل ماذا استشهد، خصوصاً أن اغتياله جاء على يد الاحتلال الإسرائيلي، فهذا يعني أن المعركة باتت تدور عند الجدار الأخير، جدار الوعي.حينما حمل القنطار ربيع عمره عابراً البحر نحو فلسطين، لم يكن آنذاك مكان للجدل أو للاختلاف حول قدسية هذا الطريق. بل كان طريقاً بديهياً لأن الوعي كان أخضر. لم يكن مهماً من أين أنت وما هو دينك أو طائفتك طالما كانت بوصلتك فلسطين. على الطريق نفسها، سار التونسي ميلود نجاح والسوري خالد أحمد أكر، وقبلهما الكثير من العراق واليمن وليبيا والجزائر. لم يكن هذا الطريق والوعي به فردياً بل حالة عامة. ولم يكن النضال والكفاح بالبندقية وحدها، بل كان بالثقافة وبالقصيدة وبالانفتاح وباستهجان التعصب. ومن كان آنذاك يختلف مع هؤلاء ومع طريقهم، كان منبوذاً ويسمى بـ«القوى الرجعية».
لكن اليوم، تبدّل الزمان فأصبح الرجعي يقدم نفسه كمدافع عن حريات الشعوب، ويلبس عباءة الحداثة والديموقراطية على جسد من جهل القرون وتخلّفها. وبرغم أن قدمه لم تغبر يوماً بتراب المعركة، فإنه بات اليوم بفضل جوقة من الإعلاميين والمثقفين الملتفّين حوله، بطلاً ويوزع شهادات البطولة على الآخرين.
حينما تحرر القنطار بعد ثلاثين عاماً من المعاناة خلف القضبان، قرّر من دون تردّد الاستمرار في الطريق نفسها، لأنه احتفظ في زنزانته باخضرار الوعي وبالذاكرة الجميلة عن الطريق الأصلية، نائياً بنفسه عن المعارك الوهمية ورافضاً الاعتراف بتبدل الزمان.
أن يصبح الاحتلال صديقاً ونبرر جرائمه فهذه إصابة في مقتل

لو كان القنطار في سوريا يقتل الأطفال والمدنيين لكافأته إسرائيل بدلاً من أن تقتله بعد عدة محاولات فاشلة. ولو كانت جحافل الجهل والتطرف التي تعيث في سوريا فساداً، فتسبي النساء وتهدم تراث حضارتنا، تشكل خطراً على عدوّنا الأول أو تشكل معاول تغيير إيجابي، لكانت أوْلى بصواريخ إسرائيل من القنطار والحاج عماد وولده جهاد.
هل سأل أحدكم: لماذا تلاحق إسرائيل حزب الله وقادته في سوريا إذا كانت المعركة هنالك كما تصوّرونها طائفية؟ أليست هذه المعركة الطائفية خدمة لها وتبعد هذا الحزب عن حدودها الشمالية؟ هل فكّر أحدكم، إذا كان بقاء النظام السوري مصلحة لأميركا ولإسرائيل كما تصورون أيضاً، فلماذا يلاحق كل من يدعمه، ويقدم الدعم والمساندة لكل من يهاجمه؟
إن الاختلاف حول الموقف من نظام عربي أو من حزب الله وسياساته وإستراتيجياته مستوعب وطبيعي، ولكن أن يصبح الاحتلال صديقاً ونبرّر جرائمه فهذه إصابة في مقتل.
سوريا هي ظهر حزب الله وطريق إمداده وجداره الخلفي، وكلاهما يعلن ذلك، وعدوّهما يعرف ذلك حق المعرفة. وحينما بدأ «حراس الحرية» زجّ المرتزقة من كل حدب وصوب إلى هذا البلد، وانبرت «أقلام النفط» تعبث بوعي الناس وتقسمهم طوائف وأديانا، فتخرج لهم من أنفسهم ألف عدو، كان الهدف هدم هذا الجدار وتشويه صورة حزب الله النضالية، وهو الذي استقطب تعاطف الملايين من العرب خاصة بعد عدوان 2006.
لقد سادت قناعة بعد ذلك العدوان بأن حسم المسألة مع هذا الحزب عسكرياً غير ممكن على الإطلاق، فكانت الطريق الالتفافية هي العزف على «وتر الطائفية». وقد جاءت الظروف الإقليمية لتخدمهم في ذلك، فبات بكل أسف هناك من يختلف حول استشهاد قامة نضالية بحجم القنطار.
لكن، برغم ذلك، فإن ما يحدث في سوريا الآن هو «صراع إرادات» بين حزب الله وإسرائيل، فالأخيرة تريد من الجبهة السورية أن تستنزف طاقات الحزب وقدراته العسكرية والبشرية إضافة إلى الضرر المعنوي، والحزب من جهته يعمل ليل نهار لتحويل الطعنة إلى فرصة، عبر فتح جبهة جديدة وتوسيع هامش تحرّكه بتأسيس قواعد مقاومة في الجولان. هي المهمة التي كانت موكلة إلى القنطار ورفاقه، التي صرح قبل استشهاده بأن قواعدها فعلا قد أرسيت. لذلك فإن القول الفصل والحسم يبقى للميدان وللإرادة المنتصرة. وحين تنتصر إرادة المقاومة في سوريا، ستنقشع الأوهام وتخمد الحروب الوهمية.

* صحافي فلسطيني ــ باريس