ليس في المشهد أيّ جديد. مفرقعات تطير في السماء، أعلام ترفرف فوق الرؤوس، صرخات تنادي بالانتصار، كاميرات تتعقّب الجمهور، ثُكَن عسكرية تتنقّل من حي إلى آخر و«حلوينة» توزَّع في الطرقات. مشاهد مسائية لا تلغي «قرف» النهار الانتخابي الطويل: حواجز التفتيش، زحمة السير، الشعارات الحزبية والشمس الحارقة. تتكرّر هذه الصور عند كل استحقاق انتخابي، دون أن يملّ الناس ويكلّوا. وإذا كان بعض أبناء الأشرفية، الذين يمثّلون أقلّية، قد «ناضلوا» أمس في متابعة الإذاعات والنزول على الأرض والمشاكة، فثمة جيران لهم اختلف عندهم مفهوم النضال.فمعظم سكان الأشرفية، سواء أكانوا من البيروتيّين أم من الأغراب، أكّدوا أمس عدم اكتراثهم لما يجري خارج حدود منازلهم. فمنهم من تابع طقوسه الاعتيادية لنهار الأحد، فشرب القهوة الصباحية ثم حضر القدّاس، ليتناول الغداء ويأخذ القيلولة اللازمة لمحو آثار شرب العرق. ومنهم من خرج باكراً من الأحياء هرباً من زحمة المشهد البلدي والاختياري، فتوجّه جبلاً أو ساحلاً لقضاء يوم الربّ بهدوء بعيداً عن ضجيج الزمامير الانتخابية وأصدائها. وآخرون جلسوا على الشرفات، يأكلون ويشربون على مشارف أقلام الاقتراع التي كادت تخلو من روّادها في ساعات الظهر.
أبرز ما يمكن الإشارة إليه يوم أمس هو دعوة نوّاب بيروت، من هذا الفريق وذاك، الأهالي إلى تقصير القيلولة وعدم «الكسل» بعد وجبة الغداء. وفيما كانت الماكينات تتابع نشاطها، محاولةً التمسّك بمقترع محتمل، كان الصحافيون يجولون في أحياء العاصمة بحثاً عن أيّ جديد. ولا شكّ في أنّ مجمل الزملاء ملّوا أمس نتيجة الأجواء التنافسية المتفاوتة. بعض الزملاء قرّروا إمضاء اليوم الانتخابي في مقاهي الأشرفية، يخرجون منها بعض الأحيان للتأكد من أن لا خبر جدّياً يستأهل التغطية. والبعض الآخر جال على الزعماء والمسؤولين الحزبيين، ليكتشفوا أنْ لا جديد، وأن المواقف لا تزال على حالها شكلاً ومضموناً. فيما عدد قليل استمتعوا بتناول وجبات الغداء في مطاعم «فخمة» لا تليق بالاستحقاق البلدي، هانئين بمبلغ 90$ الذي فرزته لهم مؤسساتهم ثمناً لتناول الطعام. ومصوّرون يلهثون لالتقاط بعض المشاهد الضرورية، منها على أبواب مراكز الاقتراع. وعند هذه برزت تصرفات غير مفاجئة لبعض العناصر الأمنية المكلّفة الحفاظ على الأمن. فهنا عنصر لا يتردّد في إطلاق العنان لعبارته تمجيداً لجمال إحدى المقترعات القادمات، وهناك عنصر آخر لا يرى مانعاً من تناول الطعام من صناديق إحدى الماكينات الانتخابية. فيما آخرون جدّيون يحاولون تنفيذ الأوامر بحذافيرها، حتى لو اضطروا إلى الاحتكاك بالمواطنين.
ولعلّ أبرز المستفيدين أمس هم البائعون الجوّالون للقهوة والكعك، الذين تمترسوا على أبواب مراكز الاقتراع تاركين ألوانهم الحزبية والسياسية، ومعلنين جودة الهال أو السمسم. أمّا «السناكات» الكبرى، فبرعت في التعاقد مع الماكينات وإنتاج صناديق الطعام.
لم يتردّد سكان الأشرفية أمس في تكرار عبارات القرف والملل من الانتخابات البلدية، أو أيّ استحقاق انتخابي آخر. ربما فقدوا الثقة بالأحزاب المتنافسة، أو ربما أدركوا أنّ أيّ تعديل على المشهد التمثيلي غير ممكن بوجود ديناصورات السياسة والمال. رغم ذلك ثمة من فرح أمس بالانتصار، معلناً فوزه بتأييد أكثرية الأقلية له، غير آبه بالأرقام واللوائح التي لم تحضر ولم تقترع ولم تبصم له بالحبر والدم.
ن. ف.