لم تتجاوز نسب الاقتراع في دوائر الأشرفية الأربع، المدوّر والصيفي والرميل والأشرفية، الثلاثة والعشرين بالمئة خلافاً لما توقّعته مختلف الماكينات الانتخابية. رغم ذلك شهدت هذه الدوائر تنافساً يُفترض أن تُظهر نتائج الفرز الأخيرة حدّته
غسان سعود
تستيقظ بيروت عادةً في الآحاد على راحتها. لا ركاب تتسابق زمامير التاكسيّات عليهم، ولا باعة كعك وخضر، ولا زحمة يسبّبها طلاب المال والعلم، ولا متاجر تفتح بصخب أبوابها لتوقظ الحي بأكمله.
البيارتة أمس، في الصيفي والأشرفية والرميل والمدور خصوصاً، أكّدوا التزامهم بتقاليد مدينتهم، فأسقطوا كل الدعوات إلى الاستيقاظ باكراً والذهاب إلى صناديق الاقتراع. وبدا كأن المدينة، التي شهدت في اليومين الماضيَين حملات انتخابية استثنائية مقارنةً بالمناطق الأخرى، ترى أنّ التنافس على المخترة جزء من «حروب الآخرين على أرضها».
وهكذا في الصيفي مثلاً، في شارع الجمّيزة، اكتشف شباب «الباركينغ» الذين قرروا وصل ليلهم بالنهار أملاً بزبائن مقرشين، أنّ آمالهم لم تكن في محلها الصحيح، فلم تحصل زحمة سير تنفّر السائقين، وبقي على جانبي الطريق متّسع لمن يرغب في إيقاف سيارته. أمّا مدرسة الليسيه، حيث مركز الاقتراع الأهمّ في الصيفي، الدائرة التي تمثَّل بأربعة مخاتير، ويعدّ فوز قوى 14 آذار فيها تحصيل حاصل بحسب نتائج الانتخابات النيابية، فبقيت الأمور طوال اليوم الانتخابي هادئة بعد استنفار صباحي سببه عدم وصول التصاريح لمندوبي بعض المرشحين، في الوقت المناسب. وتسجَّل في هذه المدرسة، مجموعة مشاهدات: هنا أحد المرشحين يحتجّ على طلب القوى الأمنية منه إبراز هويته باعتباره صار شخصية مشهورة بعدما زيّنت صوره جدران العاصمة. وهنا النائب نديم الجميل ينسى توصية العماد ميشال عون بالانتخاب الاختياري ومقاطعة انتخابات المجلس البلدي، ويتساءل كيف أنّ بعض المقترعين يصوّتون للمخاتير وينسون الاقتراع للمجلس البلدي. وهنا صبية تدّعي الانتساب إلى إحدى جمعيات مراقبة الانتخابات وتطلب من الناخبين تبرعاً لجمعيتها! في الجمّيزة أيضاً، حسمت قهوة الزجاج موقفها فارتدت الأعلام البرتقالية، متحوّلة إلى مكتب إعلامي ميداني للتيار الوطني الحر أداره الناشطان العونيان شادي أبو جودة وإيلي مينة، في تجربة هي الأولى من نوعها في عمل الأحزاب اللبنانية ثبتت أمس إيجابيتها بالنسبة إلى التيار، الذي ضبط لأول مرة تصريحات مسؤوليه.
فرعون يردّ الجميل للمخاتير الذين مثّلوا العمود الفقري في ماكينته الانتخابية
وتجاوز نجاح الماكينة العونية الإعلام. فللمرّة الأولى أيضاً في تاريخ مشاركة العونيين في الانتخابات وصل الطعام والشراب إلى كل المندوبين من دون استثناء في الوقت المحدّد. وفي مقابل أسطول «جريس تاكسي» الذي نشط في نقل أنصار 14 آذار من منازلهم إلى مراكز الاقتراع بحكم ترشّح قائد الأسطول المختار الياس جريس على لائحة النائب ميشال فرعون، نجحت شركة ألو تاكسي في توفير الطلب العوني للنقل ضمن الوقت المناسب، لأول مرة أيضاً. علماً أن مشكلة أساسية واجهت الماكينة العونية صباح أمس تتمثّل في عدم التزام المرشحين على لوائح التيار بتوفير المندوبين الذين وعدوا بهم، ما اضطر العونيّين إلى الاستنفار لحشد الأنصار قبالة مراكز الاقتراع من خارج بيروت. وقد توزّعت الماكينة العونية على خمسة مكاتب أساسية، خُصّص أحدها لضبط الفرز ومعرفة كل ساعة تقريباً من اقترع ومن لم يقترع بعد، عبر جهاز تكنولوجي أثبت نجاحه أمس مقارنةً بالعمل اليدوي عند الماكينة المنافسة التي ضاعت قليلاً بسبب فتح كلّ من القوات وفرعون وبعض المخاتير ماكينة على حسابه. ويشار هنا إلى أنّ ماكينة القوات بدت متواضعة جداً مقارنةً بماكينة فرعون، التي أدّت الدور الأساسي عبر مسؤولها سيبوه ميخجيان، سواء في نقل الناخبين أو في درس القوائم لاستدعاء من تعوّل على أصواتهم للفوز ولم يحضروا بعد. علماً أن فرعون نفسه بذل أمس جهداً لم يبذله حتى في معركته النيابية الأخيرة، وذلك وسط تصريحات النائب نديم الجميل التي تضرّ أكثر مما تنفع، والغياب الكامل لنواب الأشرفية الآخرين نايلة تويني وجان أوغاسبيان وسيرج طورسركيسيان.
ويشار هنا إلى أن المعركة عموماً أخذت الطابع الآتي: فرعون يرد الجميل للمخاتير الذين مثّلوا العمود الفقري في ماكينته الانتخابية التي سمحت بحسم 14 آذار للمعركة النيابية في الصيف الماضي، ويبذل كل المطلوب منه لتوفير ثباتهم في مقاعدهم. والعونيّون يستنفرون معتبرين أنّ زحزحة ثقة المخاتير بأنفسهم هي المقدّمة شبه الوحيدة لتغيير موازين القوى في مناطق الأشرفية الأربع.
بعيداً عن السياسة، كانت ابنة المرشح وليد بيطار تجلس في كرم الزيتون قرب طاولة عليها كومة من أوراق تحمل اسم والدها، تتبسّم للمارة متمنّية عليهم تشجيع المختار الذي «يستحقّها» والمخترة «بترحلو». بصحبة ابنة المختار الموعود، كانت هناك ابنتها التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات، تبهرها نجومية جدّها المفاجئة فتجتهد لتلوّن له شعره، عسى اختفاء الشيب يزيد من حظوظه. في جوارهما، أنصار المرشح شارل شمعون يستعرضون ما بقي من عضلات في الأشرفية للوزير الأسبق إيلي حبيقة. فوق كرم الزيتون بقليل، قبالة كنيسة السيدة، حوّل العونيون بقيادة الناشط بول أبو حيدر موقفاً للسيارات إلى معصرة لليمون، يوزّعون منها أكواب البرتقال على المارة. في وقت وضع فيه المرشّح للمجلس البلدي إيلي معماري حافلات عمومية حمراء بتصرّف الناخبين، كتب عليها: «صوّت لمين ما بدك، النقل مجاني».
وثبت نجاح الجيش أكثر من القوى الأمنية في تنظيم السير، مطبّقاً على المدنيين أيضاً مبدأ «نفّذ ثم اعترض»، معنّفاً المحتجّين، حتى لو كانوا يحملون بطاقة من وزارة الداخلية والبلديات تطلب من الأمنيين تسهيل مهمّتهم.
تنظيمياً، سبّبت زيادة أقلام الاقتراع وإعادة توزيع الناخبين عليها، خلافاً لما كانت عليه الأوضاع في الانتخابات النيابية، ضياعاً وسط الناخبين.
في دائرة الرميل، التنافس كان «على المنخار» رغم انطلاق اللائحة العونية ـــــ الطاشناقية بزخم توفّره الأصوات الأرمنيّة. وبدت ماكينة فرعون متفاجئة من الحضور العوني في دائرة الأشرفية بموازاة انخفاض عدد المقترعين، علماً بأن ارتفاع عدد هؤلاء، وفق الحسابات الفرعونية، يضرّ بالتيار. أمّا في الصيفي، التي كانت بمثابة معقل لفرعون والقوات اللبنانية، فبدا الحضور العوني مفاجئاً فيها أيضاً، ما اضطر الفرعونيّين، بحسب العونيين، إلى حشد أكبر عدد ممكن من المقترعين السنّة. ويشار هنا إلى وجود جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) الكثيف قبالة كل مراكز الاقتراع في دوائر الأشرفية الأربع، حيث يوجد ناخبون من الطائفة السنيّة. لكنّ معظم الأحباش، الوافدين إلى الأشرفية من خارجها، بدوا شبه منعزلين، يوزّعون اللوائح على المارّة من دون أن يتعاطوا مع أحد. بدورها لم تشهد دائرة المدوّر التي يمثّلها ثمانية نواب معركة جديّة لوجود غالبية ناخبة أرمنية بدت منذ الصباح الباكر منسجمة بالكامل مع ماكينة الطاشناق في الذهاب إلى الصناديق.
قبل ساعة من إقفال صناديق الاقتراع كان العونيّون يجهّزون بإشراف الناشط مروان الأسمر ساحة للاحتفال قرب ساحة ساسين. أليس في الأمر مخاطرة؟ أبداً، يقول مسؤول الماكينة العونية جورج طاشجيان، فقد «أثبت التيار في انتخابات بيروت أنه ربح نفسه على صعيد المناصرين والماكينة. أما من يفوز بالمخترة، فهو تفصيل».