حين خرجنا من صالة الفندق التي غصّت بالحاضرين، قبالة بحر بيروت، كان يخالج بعضنا الشعور بأنه شهد على لحظة تاريخيّة. في ذلك اليوم، ١٥ حزيران 2013 تحديداً، إنعقد «المؤتمر الوطني للإنقاذ»، بمبادرة من مجموعة سياسيين، ومناضلي أحزاب علمانيّة، وناشطي جمعيّات مدنيّة، ونقابيين وأكاديميين وإعلاميين ومثقفين… على رأسهم الوزير السابق شربل نحّاس. كان المجلس النيابي قد مدّد لنفسه، قبلها بأسبوعين، مرّة أولى، وحالة القلق الأهلي والتوتّر السياسي والأزمات الاجتماعيّة في أوجها.
«نحن اليوم أمام خيارين: إما الفوضى والخراب، أو العمل معاً من أجل إعادة تأسيس الدولة وبناء جمهورية جديدة»، هذا ما جاء في البيان الداعي إلى تغيير نظام طائفي «اقتربت نهايته». بعد قراءة دقيقة ومعمّقة للواقع، حدّدت خطة العمل «التوجهات الأساسية للمرحلة الانتقالية»، من «نقل الموقف إلى كل الساحات»، وصولاً إلى تشكيل «الهيئة الدستوريّة الانتقاليّة» لـ«بلورة البديل» و«قلب الاصطفافات».
عند باب الفندق أستوقَفَنا «الناشط الحقوقي» العائد من واشنطن، حيث كان يعمل مع «منظمات غير حكوميّة»، ثم انخرط في دعم دول «الربيع العربي» الذي نعرف خواتيمه. علّق على المؤتمر وتنظيراته ومخططاته، بسخرية: «يتحدّث شربل بثقة، كأنّه يعلن الثورة، وكأن الجماهير الهادرة في الخارج لا تنتظر سوى إشارة منه لتقتحم قصر الشتاء».

سقف المطالب
يجب أن يبقى عالياً… بعيداً من السذاجة الثورية أو المزايدات الانتحارية
صحيح! ردّ صديق بأسى. نحن أمام مشروع سياسي متكامل، لكن من دون جماهير! لبنان ليس فيه جماهير تنزل إلى الشارع إلا ضمن قطيعها الطائفي. «حملة اسقاط النظام الطائفي ورموزه» انطلقت من كنيسة مار مخايل في الشيّاح بـ٣ آلاف شخص في شباط ٢٠١١… ووصلت الى استقطاب عشرات الآلاف خلال أشهر قليلة…. فكيف ولماذا أجهضت؟ «الأمر كذلك منذ أيّام طانيوس شاهين يا جماعة!»، أردف صديق ثالث… ومضينا كل في سبيله.
ثم دارت الأيّام، وتضخّم الغضب الشعبي. كان لا بدّ من أن تطفح شوارعنا بالزبالة كي تحدث أعجوبة صغيرة، لم تصنعها جرائم السلطة الأخرى كالتمديد للبرلمان مثلاً. لقد «ظبطت» أخيراً مع مجموعة من ناشطي «المجتمع المدني» المتنوّعي الخلفيات والآفاق، فتبعهم الناس إلى «وسط بيروت». كرة الثلج البشريّة أخذت تتضخّم في ساحة رياض الصلح مساء السبت ٢٢ آب. من هاشتاغ #طلعت_ريحتكم إلى شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» (وقد هيّج مشاعر إلياس خوري، المتحسّر على «ثورة الأرز» التي حرفتها الطوائف عن «احتمالاتها»!)… خطوة صغيرة لم يتردد الشباب المعبأ بالغضب الجميل في ارتكابها، فما على الشعارات جمرك في النهاية!
في طليعة قيادات هذه الانتفاضة المرتجلة، وجدنا صديقنا الناشط الحقوقي الذي كان يبحث عن الجماهير، أمام الفندق البحري، قبل عامين وشهرين. رأيناه في الميدان، سمعناه يخطب على التلفزيون. كان متحمّساً جدّاً، وراديكالياً، وسعيداً بأنّه اهتدى إلى الجماهير أخيراً. لكن، هل نحن أمام جماهير تفتقر إلى مشروع سياسي؟ المشروع موجود في الحقيقة، شرط أن يحدث التلاقح المشتهى: لقاء بين الزخم الشعبي ومشروع مواطني يتجاوز النفايات إلى معركة حقوق، وتعديل بعض قواعد الحياة السياسية اللبنانيّة… في انتظار التغيير الكبير؟
تفرّجنا مشدوهين على الناس وقد أفلتت بالآلاف من عقال مذاهبها وعصبياتها، ومتاريسها الحزبيّة، لتكتشف المواطنة في الشارع. هؤلاء هم نواة التغيير، والرصيد الذي نحلم به جميعاً، فكيف نثمره سياسياً؟ لقد تفاجأنا من اصرار (بعض) قادة الحراك على استبعاد «السياسة» عن خطابهم. هل هي حفلة ضخمة إذاً في الداون تاون؟ «هيّا إلى الثورة» على طريقة جيري روبن، زعيم الـ«ييبيز» في السبعينات مثلاً؟ الثائر الأميركي المولع بتشي غيفارا وسرحان سرحان، كان برنامجه مغرياً: «أعمال زراعيّة صباحاً، وبعض الموسيقى بعض الظهر، والحب والحشيش في الوقت المتبقّي»…
إن استمرار الحراك مرهون بانفتاحه على الواقع والقوى الموجودة، وتصالحه مع الشرائح الاجتماعيّة المحرومة وغير المنضبطة. أما التعالي عنها، والانعزال في وهم النقاء الثوري، فيشبه الاستقالة. تلك هي السياسة. مع شربل نحاس وحنا غريب ونزار صاغية ونجاح واكيم…. وكثيرين غيرهم، بات الحراك سياسيّاً. نفهم نزعة النقاء الثوري، في مواجهة الواقعيّة التي أرغمتنا عبر الحقب والأزمات على تقديم التنازلات والقيام بالمساومات حتى لم يبقَ من المبادئ التأسيسيّة إلا الشعارات والعصبيات الحزبيّة. نفهم الموقف النقدي الصارم من أحزاب السلطة المسؤولة، بل المتورطة بشكل أو بآخر في هذا الخراب العظيم… والحذر من محاولات الاحتواء، أو التفخيخ العنيف أيضاً، من قبل بارونات النظام الطائفي ــ المافيوي. لكن، بعدما اتسع الحراك ليشمل قوى علمانية ويساريّة ووطنيّة، مع مجموعة #بدنا_نحاسب وغيرها، سيكون على قيادات الحراك ــ المطالبة هي الأخرى بالشفافية والاستقلاليّة والنظافة والرؤيا البعيدة ــ أن تتعامل مع المشهد السياسي والشعبي كما هو. أي حالم بالغيير من الطبيعي أن يتمنّى استقطاب مناضلي «التيار الوطني الحرّ» مثلاً، متمنياً أن يستعيدوا نقاءهم الأوّل بعد الصدمة «التوافقية» التي منيوا بها بالأمس، فيعودوا حركة مطلبية اصلاحية، لا جماعة مقهورة تطالب بحصّتها من الطورطة الطائفيّة؟ أي ساع إلى تغيير النظام السياسي تحت سقف وطني وقومي، لا يتمنّى أن يأتي يوم قريب يرى فيه حزب الله منخرطاً في معارك العدالة الاجتماعيّة، والتصدّي لسفاح القربى بين السياسة والبزنس الذي ينخر البلد؟ وأخيراً أما آن أن تستفيق القوى اليساريّة وتجدد أحزابها وبناها، بدلاً من أن تتفرّج عاجزة على الجيل الجديد محاصراً بين نارين: التطرّف والبراغماتية الغربية.
ما هي آفاق التغيير اليوم؟ وكيف سينعكس التحرّك على الحياة السياسيّة اللبنانيّة؟ عشيّة الموعد الكبير غداً السبت، نؤمن أن سقف المطالب الشعبية يجب أن يبقى عالياً… بعيداً من السذاجة الثورية أو المزايدات الانتحارية التي لن تفضي الا إلى حروب أهليّة، وتعزز نفوذ الرجعيات الاصوليّة، وتعيد انتاج النظام القديم بمسميات مختلفة، وتغرقنا في مزيد من التفتت، والتبعيّة لوصاية الاستعمار الجديد.