عدسة الكاميرا تسبق الحقيقة، تتسلل إلى قاعة أرضية لتختلس مرارة الخديعة من صورة الكتب المحترقة والممزقة وسط الدمار وبقعة من البحر. تقول المراسلة التلفزيونية الغبية «هنا، في هذا الملجأ الضخم وسط وكر الكتب المشبوهة والأجهزة الإلكترونية كان يقبع الإرهاب»! هكذا قدّمت رسالتها السامّة ومضت. وفي الحقيقة كان ما اشارت اليه ملجأ سبق تدميره مرات عدّة من قِبَل زوارق البحرية الإسرائيلية. بعدها قرّرنا بناء قاعة تحت الأرض تحولت إلى ناد رياضي، ثم الى منتدى الكرمل الثقافي، وفازت كمكتبة مدعومة من «مؤسسة التعاون» لاحتوائها آلاف الكتب والمراجع العلمية لطلبة وشباب المخيم، والأهم أنه أطلق عليها اسم «مكتبة الشيخ صالح شعبان»، بعد وفاة هذا الاخير، قبل تدمير مخيم نهر البارد بعام تقريباً.
في المخيم القديم أحشاء قديمة، صوَرٌ ومشاهد تتكدّس في الخيال البعيد، لكن بالأبيض والأسود. ذاكرة متمرّدة كموج بحر عكا وخصبة كتراب الدامون. شيخ كفيف يمدّ عصاه أمامه، وينقر على حوافي الحيطان في الزواريب الضيقة. يعرف تفاصيل تاريخ المخيم وأهله، وكل شاردة وواردة ونادرة حصلت فيه.بحق هو «طابخه وعاجنه». الخبير بأسرار الحارات والتنظيمات، والمشايخ والصفقات المشبوهة، والمؤامرات المحليّة والدوليّة. تتدفّق على لسانه وتفيض حكايات تختزل فيها حيوات وسير ناس. موسوعة ثقافية متجوّلة وقاموس للغة الإنكليزية والمصطلحات العلمية والطبية، سيبويه النحو والصرف. إن أردت معرفة الجواب عليك أن تسأل الشيخ.
تعلّم الإنكليزية بالصوت. بمواظبته على سماع برنامج «كيف تتحدث الإنكليزية» في اذاعة لندن. يقتني كاسيتات لعدة مراحل كلها مبنية على الثقافة السمعية، مثل ساعته الناطقة، يزدري «العمى الحداثوي» الذي يعمل على حروف «برايل»، رغم أنّه يرافق الوفود الأجنبية الزائرة للمخيم، ويعمل في اللجنة الطبية مسؤولاً ومترجماً بين المريض والطبيب. قبل رحيل المكان رحل! في الذاكرة تحضر جلسته على البلاطة الجانبية لملجأ ضخم يلاصق ملوحة الشاطئ ويجاور شارع المدارس على الطريق التحتاني للمخيم القديم. يخشى الضجيج، يعتبره اغتيالاً مدبراً للصدى ولحاسّة سمعه التي يتكئ عليها كعصاه. تستفزّه لحظة ازدحام أجساد النسوة التي تختطف منه حاسة الشم، يحاول أن يتجنّب حارة السوق التي يحتشد فيها المارّة وأكوام الخضار، وصراخ الباعة وسباب الأطفال. الدروب اللزجة غير سالكة في موسم قطف عروق الملوخية. وغير آمنة وقت احتدام المناكفة بين مواء القطط ونباح الكلاب الشاردة خلف أبواب الجزارين. ويحبّ الليل، فاللون في عينيه سيان، لولا قطعان الجرذان المنتشرة بحثاً عن لقمة عيشها في المجارير المكشوفة.
شيخ اليسار يثقّف نفسه، في البداية يصير إماماً للمسجد، ثمّ عضواً في حركة القوميين العرب. يعتني بهندامه من الحذاء حتّى ياقة القميص، يرسم بشكله المهيب، بنظارته السوداء وعصاه التي صارت جزءاً أصيلاً منه سيرة مركّبة من تمرد وانتماء، كان يحب ان يقول ساخرا: «شيخ عن شيخ بيفرق!».
هو فارس شارد من فلول «القرامطة». ينتمي لزمن باطنيّ تُرفض فيه الفتاوى، التكفير والتحريم، منحاز إلى لاهوت التحرير، يعرف أسماء الكبار منهم. تحسبه من نخبة العميان المتمرّدين، كم كنا نتوق لمعرفة رأيه وهو يسمع أهازيج التغيير، وكيف يقوم المايسترو الحضاري بممارسة القتل الجماعي بروح رياضية.
وللشام عنده شجنٌ خاص، سيغضبه في بلاد أبو العلاء المعرّي، احتراق «رسالة الغفران» في دائرة نار قبليّة! وربما سيناقش الأدب الجاهلي برؤية طه حسين النقدية، ويتضامن مع تمرد نصر حامد أبو زيد.
الشيخ الضرير دليلنا إلى الثقافة التقدميّة. لا نعرف إن كان يقصد أو لا يقصد. عندما نقرأ له شتى أنواع الكتب، وبناءً على اختياره ووفق برنامج يضعه ويلحّ على تنفيذه. أصبحنا معه مثقفين لكن «بنيرانٍ صديقة». يكون سعيداً وهو يستمع لنا ونحن ننشد على مسامعه ديوان شعر أو رواية او كتاب مذكرات أو فلسفة. نقرأ ويسمع ثم يناقش. صار هيغل وماركس وتروتسكي واسحق دويتشر في المخيم. قصة «الرعب والجرأة» و«كيف سقينا الفولاذ؟». قصة «إنسان حقيقي»، و«بلدي داغستان» و«الشيخ والبحر»، وعبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا، حنا مينا وغسان كنفاني وتوفيق زياد، وخليل السكاكيني وعبد الوهاب الكيالي وادوارد سعيد في زواريب الحارة.
في الأزقّة الضيقة جعل الشيخ من العالم أزقة واسعة متفرّعة فينا. في الوقت الصّعب والزمن الحلزوني كان يضرب عصاه بالأرض ويصرخ «غيمة وبتمر»! كنت أقول: «يا شيخ صالح: خيمة وبتمر»!
* اديب وسياسي فلسطيني