وفيما طالبت هذه الموجة من الاحتجاجات، السلطات، بإنهاء «اتفاقية الغاز»، ومعاهدة «وادي عربة»، ومشاركة الأردن في الجسر البري الإسرائيلي، فهي رفعت شعارات ذات سقف مرتفع كانت كفيلة باستفزاز السلطات، من مثل: «كيف بدك تجيب سلام؟ وإنت حليف الأميركان، لا تقلي أمن وأمان، وإنت بتحمي في الكيان». وفي المقابل، وكما في كلّ مرة تتّخذ فيها التحركات الاحتجاجية في الأردن طابعاً أكثر جدية وزخماً، بدأت تثار أزمات هوياتية فرعية ونزعات فردية عنصرية، يرعاها الذباب الإلكتروني وبعض الشخصيات الإعلامية وصناع القرار، ممن صنعتهم الدولة ليوم كهذا، ولا سيّما أنه يصعب على الحكومة تقبل وجود أردنيين لا تنطلي عليهم مسرحيات الإنزالات الجوية للمساعدات التي تقتل الفلسطينيين، ولا يتطلعون إلى مشاركة ولي العهد في رحلة عمرة ودعوات إفطار رمضانية في أحد قصوره. وعلى هذه الخلفية، لا تتوقف بعض المجموعات والحسابات الإلكترونية من المرتزقة و«السحيجة» عن شيطنة المحتجين وتشويه صورتهم، باتهامات الإساءة إلى الأجهزة الأمنية والإضرار بـ«الأمن الوطني»، وذلك بهدف ضرب عمق الاحتجاجات التي غابت تغطيتها عن معظم الوسائل الإعلامية الكبرى المنصاعة للموقف الحكومي، فضلاً عن تكريس مزايدات وطنية حول من هو الأردني الحقيقي، وما هو الاحتجاج المسموح به، وما هو السقف في دعم غزة.
ومنذ اليوم الأول للتظاهر، أحاط المحتجون بعشرات الصفوف، رجال الأمن، الذين شرعوا، على جري العادة، في إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع وضرب المحتجين بالهروات. وبحسب جهات حقوقية، اعتقلت الأجهزة الأمنية، في اليوم الأول، حوالى 98 شخصاً، أفرج عن معظمهم في غضون أربعة أيام، ما عدا ثلاثة أشخاص تم توقيفهم لمدة أسبوع وخرجوا بعدها. ومن جهتها، قالت «مديرية الأمن العام الأردنية» إن المتظاهرين «اعتدوا على أفراد الأمن العام وأصابوهم، وألقوا زجاجات مولوتوف وألحقوا أضراراً بالممتلكات العامة والخاصة». والمثير للسخرية، هنا، أن الفيديوهات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت العنف الذي مورس ضد المتظاهرين، وبيّنت أيضاً تورط الأجهزة الأمنية في اعتقال حتى عناصرها من «الأمن الوقائي» الذين يرتدون الملابس المدنية، الأمر الذي يُظهر عشوائية الاعتقالات وعدم قانونيتها وتورط عناصر «الأمن الوقائي» أنفسهم في «إثارة الشغب».
وعلى خط مواز، فعّلت السلطات «قانون الجرائم الإلكترونية» الذي كان قد أُقر قبل «طوفان الأقصى» بشهرين، لتشكّل الحرب الإسرائيلية على القطاع أول اختبار لفاعليته، عبر استدعاء ناشطين وقيادات سياسية، أبرزهم أيمن صندوقة وأنس الجمل وعبد الرحمن شديفات وخالد الناطور ومعتز عواد، وكان آخرهم الصحافي خير الدين الجابري الذي أفرج عنه مدعي عام عمّان، بعد أسبوع من توقيفه على خلفية تغريدة. وأخيراً، اعتقلت الأجهزة الأمنية اثنين من «الهتّيفة»، أحدهما انتقد التناقض في الموقف الرسمي بين رفض سياسة «الوطن البديل» ودعم إسرائيل، وآخر دعا إلى تنفيذ عمليات خطف جنود قرب الأغوار وإيلات والحدود. أيضاً، تحتجز الحكومة الأردنية، منذ أسابيع، عضو حزب «الوحدة الشعبية» اليساري، مجد خلدون، على خلفية هتاف طالب فيه بوقف تصدير الخضار إلى الكيان.
ورغم الاعتقالات، سجّل يوم الجمعة الماضي، مشهد تضامني عارم، حيث لم تمنع إغلاقات الشوارع الرئيسية والمداخل المؤدية إلى مكان الاحتجاج وأزمة السير الخانقة، من توافد نحو عشرة آلاف شخص مشياً على الأقدام من أربع نقاط تجمع (السفارة الصينية ومسجد الصالحين والمسجد الكالوتي ومستشفى الغاردنز)، تبعد معظمها حوالى كيلومتر على الأقل عن السفارة الإسرائيلية. أيضاً، أسند عشرات المحامين الأردنيين، بردائهم القانوني، الصفوف الأمامية للمسيرة المتوجهة إلى السفارة، في محاولة رمزية لحماية المحتجين من القمع. إلا أنه في أيام الاحتجاجات التي تلت الجمعة، صادرت الأجهزة الأمنية يافطات ولافتات وأعلاماً - ما اضطرّ المحتجين إلى رفع علم فلسطين عبر صور على هواتفهم -، وقطعت أعمدة الإنارة في المنطقة في محاولة لعرقلة عمل المصورين وإمكانات إحصاء العدد. كما تصاعدت وتيرة الاعتقالات التي طالت ناشطين وصحافيين، وحتى نساء ظهرن في فيديوهات وهنّ يُسحلن ويُضربن، قبل أن تُفض الوقفة مع منتصف الليل. وبالتزامن مع ذلك، داهمت الأجهزة الأمنية بيت الباحث زياد ابحيص، واعتقلته إلى جهة مجهولة.
ومن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة احتقاناً أكبر، ولا سيما وسط تصاعد الغضب ضدّ الأجهزة الأمنية التي تُرفع في وجهها شعارات من قبيل: «السفارة بتعمل إيه، كل الطاقم سي آي إيه»، ودعوات «الموت لأميركا وإسرائيل». ولا يبدو هذا المشهد ملائماً لنظام الحكم الذي يسعى إلى تقييد المشهد السياسي عشية الانتخابات النيابية في آب القادم، خصوصاً في ظلّ المخاوف من تزايد شعبية حركة «حماس» وقياداتها في الشارع الأردني. وفي هذا السياق، اعتبر سعود الشرفات، العميد السابق في «مديرية المخابرات العامة» الأردنية، في تقرير لصحيفة «واشنطن بوست»، أن الدولة في وضع لا يحسد عليه، إذ إن الصراع الطاحن في غزة، وارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين، يختبران «قدرة الدولة على الحفاظ على الإيقاع السائد الآن، حتى لا تخرج الأمور عن نطاق السيطرة».