على رغم الفارق في مستوى خطاب الثورة الذي قدّمه باسل الأعرج، وما يتركه شهداء الضفة الغربية المحتلّة من وصايا وأقوال أخذت صِفة أدب الثورة ووصاياها، فإنه من السهل وضْع اليد على نقاط الالتقاء، بين الأطروحات العميقة المركّزة لباسل، والأدبيات الشديدة البساطة والعظيمة الدلالة في آن، لعشرات الشهداء الذين ارتقوا خلال 20 شهراً مرّت على استشهاد مؤسّس "كتيبة جنين" جميل العموري، وصولاً حتى حسام سليم ومحمد أبو بكر الجنيدي في نهاية الشهر الماضي. الأعرج (استشهد في 6 - 3 - 2017)، الذي اختار حياة استمرّ فيها في "دقّ جدران الخزان" حتى النَّفَس الأخير، محذّراً من خطورة التأقلم والتصالح حتى النفسي مع وجوه المحتلّين، استقى مضمون تنظيره الفدائي من تجارب حركات التحرّر العالمية، وآداب حُقب ما قبل الثورات وما بَعدها، معبّئاً نفسه بمسيرة حياة أجداده المقاتلين ما قبل النكبة، وغائصاً في إرث مُفكّري الثورات ومُعذَّبيها، وصولاً إلى رحيله الملحمي الذي خرق به "جدران الخزان". ابن بلدة الولجة، تَحضر روحه في أدبيّات العشرات من الشهداء الذين قضوا على مدار 20 شهراً، والذي أعادوا ترجمة فكره النخبوي بمضامين بسيطة.
يَنقل رفاق الشهيد عبدالله الحصري - أحد قادة "كتيبة جنين" - عنه قوله في شأن اندفاعه الدائم في التصدّي لاقتحامات المخيّم: "بقدرش أشوف الجيش الإسرائيلي وما أطخّش"، وهو بالضبط ما كان يريد أن يزرعه باسل: "لا تتأقلموا مع وجوه جنود الاحتلال"، وما أوصى به أيضاً إبراهيم النابلسي: "بدي الناس تصحى، لا تتركوا البارودة". إنّها باختصار، فكرة "استمرارية جدوى المقاومة". يقرأ الأعرج الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وفق تقسيمات "علي شريعتي وفرانز فانون لهذا العالم"، ويقرأه المقاومون الجدد وفقاً لخلاصة ما فهِمه باسل. وفي النتيجة، الجميع يُقتلون في سبيل ما آمنوا به.
يَحضر باسل، الذي جمع فيضاً هائلاً من متناقضات الإيديولوجيا، في شخوص أيقونات المرحلة


لدى سؤال "الأخبار" واحداً من الناشطين في "عرين الأسود"، ما إنْ كان يعرف شريعتي وفانون ومكسيم غوركي والحر الرياحي ومحمد الزرقطوني، يجيب بأنه سمع ببعضهم ولم يقرأ لهم يوماً. نسأله أيضاً:
- هل تعرف باسل الأعرج؟
- بل أفدي نهجه بدمي.
- ما الذي تعرفه عنه؟
- أكثر ممّا تعرفه أنت بكثير، أنا أحمل البندقية، وسأموت وهي في يدي، أنا وجدت أجوبتي، ومثلي المئات في نابلس وجنين وطولكم وأريحا وبلاطة وجبع وقباطية والخليل.
يَحضر باسل، الذي جمع فيضاً هائلاً من متناقضات الإيديولوجيا ما بين الاشتراكية والقومية العروبية والتديّن الصوفي، وسكبها في قالبِ الثوريّ الجديد، في شخوص أيقونات المرحلة، الذين أضافوا إلى هذا الخليط العجائبي، مزيجاً مثيراً من شخصية الشابّ المحبّ للحياة، المتتبّع لآخر صيحات الموضة في المظهر واللباس، وشخصية الفدائي، المتديّن فطرياً، والذي يشعر في كلّ لحظات حياته أنه قريب من لقاء ربّه. وديع الحوح، محمد العزيزي، تامر كيلاني، حسين قراقع، إبراهيم النابلسي، فاروق سلامة وغيرهم، يجمعهم ذلك الخيط الدقيق، شأنهم شأن بقيّة الأبطال الحاليين.
في رواية "رجال في الشمس"، انتَخب غسان كنفاني ثلاثة نماذج مجتمعية لتُعبّر عن اتّجاهات وهواجس أولئك الذين وجدوا في الهجرة الخلاص الفردي والذاتي الأمثل من فقر المخيّمات واللجوء. نماذجُ لو أردنا إسقاطها على آخر عشرين شهراً من عمر الصراع، لوجدنا أن المسنّ "أبو قيس" غدا في يومنا، الفدائيَّيْن ماهر تركمان وفتحي خازم. أمّا الشاب "أسعد"، فما أكثر الذين تمرّدوا على خياره اليوم، واختاروا الخلاص الجماعي لشعبهم، وهم يوصون في ما قبل الرحيل الأبدي بأ"لّا تتركوا البارودة". يَحضر أيضاً الفتى "مروان"، وقد كسر الشهيد الفتى أمجد الفايد (17 عاماً) صورة طُموحه المُراهق، وانخرط في أنشطة المقاومة، إلى الحدّ الذي جعل العدو يستدعي قوّة مؤلَّلة لاغتياله.
قبل ستّ سنوات، اغتيل باسل الأعرج، بعد أن أدّى قسطه للبلاد كاملاً. بحث ونظر ودرس وكتب، اعتُقل وحمل السلاح وطُورد، ثمّ استشهد في غضون الأعوام الأكثر جدباً في مسيرة الصراع. واليوم، غدت صورته ومقولاته زينة استعراض لأنصاف الثائرين، أمّا بندقيته ودماؤه فللذين لم يبحثوا عن "تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح".