تكاد الكثير من التحليلات التي تُواكب احتدام الصراع الداخلي الإسرائيلي، على المستويَين السياسي والاجتماعي، تَحصر المخاطر الناجمة عن هذا الاحتدام باحتمال نشوب حرب أهلية، مستندِةً في ذلك، في جزء منها، إلى معطيات موضوعية، وفي جزء آخر إلى نيّة توظيف سياسي في وجه الائتلاف الحكومي بهدف حمْله على التراجع عن مشروعه التغييري للسلطة القضائية. وإذ لا يوجد تقدير مهني، إلى الآن، بإمكانية اندلاع حرب أهلية وشيكة، فإن احتمالات نشوب حالات عنف واغتيال سياسي تبدو أكثر ارتفاعاً وقابلةً للتحقّق في أيّ وقت، وهو ما دفع "الشاباك" إلى اتّخاذ إجراءات وقائية وإيصاء المسؤولين الرسميين بضرورة تخفيف الاحتقان. على أن التهديدات الناتجة من الانقسام المتعمّق على هويّة الدولة والمجتمع، لا تقتصر على ما تَقدّم، وإنّما تمتدّ لتشمل تقويض "المناعة القومية"، التي بات انحدارها على نحو خطير أمراً ملموساً بالنسبة إلى قادة العدو ومؤسّساته ذات الصلة.وفي هذا الإطار، يَبرز تحذير رئيس أركان الجيش السابق، غادي آيزنكوت، من تفكُّك التضامن الاجتماعي الذي تبلغ نسبته من الأمن القومي 51% ("معاريف" 28/1/2022)، فيما تتقدّم أيضاً القراءة التي أعدّها الرئيس الحالي لشعبة التخطيط الاستراتيجي في هيئة الأركان، اللواء يعقوب بنغو، بمساعدة ضابطَين آخرَين، لمخاطر تآكُل التماسك المجتمعي على الأمن القومي الإسرائيلي وعلى صورة "الدولة" في عيون أعدائها. يرى بنغو، في القراءة التي نشرتْها مجلة "معرخوت" التابعة للجيش (12/1/2023)، أن من بين "العناصر المهمّة التي ساعدت إسرائيل على تنفيذ استراتيجيتها في العقود الأولى من وجودها، تماسُك المجتمع الإسرائيلي ومناعته واستعداده لتحمّل العبء المطلوب لصالح الردّ الأمني، بما في ذلك الاستعداد للخدمة في الجيش وارتفاع تكاليف الأمن، والاستعداد لمنح المنظومة الأمنية وزناً كبيراً في عملية صناعة القرارات في قضايا الأمن القومي"، معتبراً أن التحدّي الذي تُواجهه إسرائيل يكمن في "كيفية المحافظة على هذا الاتّجاه بمرور الوقت". لكنّ المشكلة أن دولة الاحتلال تُواجه حالياً صعوبة في الحفاظ على عنصر القوة الناشئ من طبيعة العلاقة بين المجتمع والجيش، وهو ما يُرجعه بنغو إلى مجموعة عوامل تتمحور حول "التغيير الديموغرافي الذي شهده المجتمع الإسرائيلي، والذي أدّى بدوره إلى تغيُّر الأسطورة والقيم" المشتركة، في إشارة إلى نشوء مجتمع "القبائل الأربع" وفق التسمية التي أطلقها الرئيس الإسرائيلي السابق، رؤوفين ريفلين، وحفرت مكانها في الأدبيات الإسرائيلية. وينبّه رئيس شعبة التخطيط إلى أن "تآكُل التماسك المجتمعي والدولتي" يُضعف قدرة المجتمع على الصمود، ويشكّل عبئاً على القيادة السياسية والأمنية لدى حاجتها إلى اتّخاذ قرارات دراماتيكية تحتاج إلى التفاف شعبي واسع.
دولة الاحتلال تُواجه صعوبة في الحفاظ على عنصر القوة الناشئ من طبيعة العلاقة بين المجتمع والجيش


في ضوء ذلك، يصبح مفهوماً ما أشار إليه بنغو أيضاً من "صعوبة في الحفاظ على نموذج جيش الشعب"، إنّما تُمثّل نتيجة طبيعية للعوامل السابق ذكرها، بالنظر إلى أن الجيش لا يمكن عزْله عن تداعيات الشرخ المتعاظم. وممّا يزيد الوضع تعقيداً بالنسبة إلى المؤسّسة العسكرية، هروب الأدمغة منها، والذي يرجع إلى وجود "بدائل توظيف جيدة من الناحيتَين الاجتماعية والاقتصادية بالقياس إلى الخدمة في الجيش"، الأمر الذي يؤدّي إلى إضعاف موقع الأخير كمؤسّسة حامية للكيان ولأمنه القومي. وفي ما يبدو تتويجاً لتلك العوامل المتسلسلة، يضيف رئيس شعبة التخطيط عنصراً آخر إلى عوامل تقويض المناعة القومية، متمثّلاً في "ضعف المكانة العامّة للجيش والأجهزة الأمنية في المنظومة السياسية والجماهيرية"، والذي يأتي هذا الإقرار الصريح به ليثبت دقّة الخطاب المقاوم حوله بوصفه تغيّراً هامّاً على الساحة الإسرائيلية. على أن أخطر ما خلص آليه بنغو، قد يكون حديثه عن نهاية العصر الذهبي لإسرائيل، في ظلّ "تَحوّل المجتمع الإسرائيلي من مجتمع ذي تيّار رئيس قوي ومتضامن ومستويات عالية من التعبئة، إلى مجتمع أكثر استقطاباً مع تقلُّص أساس الإجماع، والاستعداد المتفاوت لتحمّل عبء الأمن، والذي تحوَّل إلى تحدٍّ لعملية صناعة القرارات، ولقدرة الصمود والمناعة". والأهمّ بالنسبة إلى بنغو، هو أن تعزُّز صورة إسرائيل بوصفها "بيت العنكبوت" من جرّاء العيوب التي تعتري تماسكها الداخلي ومناعتها القومية، سيجعل أعداءها أكثر جرأة عليها.