الفدائيّ في مقابل المستوطِن. التطوّرات التي شهدتها فلسطين المحتلّة، في الأشهر الأخيرة، تتّجه نحو تكريس الدور القيادي لقوّتَين صاعدتَين في خضمّ صراع ممتدّ لأكثر من قرن: تيّار الفاشية الصهيونية الذي وصل إلى السلطة أخيراً من جهة، والظاهرة الفدائية الجديدة المتنامية من جهة أخرى. بطبيعة الحال، لا يمكن فصْل الديناميات السياسية والاجتماعية التي تُعزّز مِثل هذا التحوّل، عن جوهر مشروع التطهير العرقي الاستيطاني الإحلالي الصهيوني، ومفاعيله على الشعب الفلسطيني، وعلى «المجتمع» الصهيوني، أي قطعان المستوطنين من متديّنين وعلمانيين. تتباكى قطاعات عريضة من النُّخب الصهيونية والغربية على «الديموقراطية الإسرائيلية»، وآخرهم إيهود باراك، رئيس الوزراء الأسبق، الذي حذّر، في مؤتمر صحافي استضافتْه «هآرتس»، من انزلاق الكيان نحو الديكتاتورية. يتناسى هؤلاء أن المآلات الراهنة للمشروع الصهيوني كانت كامنة في داخله، حاله في ذلك حال جميع المشاريع الاستيطانية التي اصطدمت بمقاومة عنيدة ومديدة من قِبَل السكّان الأصليين، كما حصل في الجزائر مثلاً، عندما شكّل مستوطِنون فرنسيون من «الأقدام السود»، جلّهم من اليمين المتطرّف المغرق في العنصرية، «منظّمة الجيش السرّي»، المسؤولة عن مئات العمليات الإرهابية ضدّ المدنيين الجزائريين.لكن الفارق بين ما يجري في الكيان الصهيوني، وما جرى في تجارب تاريخية سابقة، هو أن الجناح اليميني العنصري الأكثر فجاجة فيه وصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ما يشي باتّساع قاعدته الاجتماعية. سبق لعدد من الكتّاب والباحثين الإسرائيليين، في العقدَين الماضيَين، وبعضهم احتلّ مواقع رسمية في الكيان، كأبراهام بورغ، رئيس «الكنيست» الأسبق، وعالم الاجتماع باروخ كيمرلنغ، ويهوشوا ليبوفيتز، والصحافي جدعون ليفي، وغيرهم، أن أشاروا إلى جنوحٍ متعاظم لـ«المجتمع الإسرائيلي» نحو الفاشية، من دون أن تؤخذ تحليلاتهم على محمل الجدّ، إلى أن أتى اليوم الذي «يَحكم فيه مئير كاهانا إسرائيل مِن قبره»، وفقاً لناحوم بارنيا، أحد كتّاب أعمدة «يديعوت أحرونوت» «اليمينية»!
في الواقع، فإن استكمال مشروع التطهير العرقي الاستيطاني، وهو محطّ إجماع القسم الأغلب من نُخب الكيان و«مجتمعه»، في ظلّ صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، ومقاومته المتصاعدة، والتغيّر المستمرّ في موازين القوى في الإقليم لغير مصلحة هذا الكيان بفعل الدور الوازن لـ«محور المقاومة»، جعل الجنوح نحو الفاشية أمراً حتميّاً في إسرائيل. من الممكن أن تكون عوامل أخرى، داخلية أو دولية، كالتغييرات الديموغرافية بفعل هجرة اليهود الروس، أو كالتداعيات الاقتصادية - الاجتماعية والسياسية للتوجّهات النيوليبرالية المعتمَدة مع بداية التسعينيات، قد ساهمت في مِثل هذا التطوّر، لكن العامل الحاسم، والذي يقع في قلْب المشروع الصهيوني، يبقى السعي للاستيلاء على ما بقي من الأرض الفلسطينية، بـ«مزيد من القوّة»، وبالإرهاب والقتل. يعني ذلك عمليّاً صيرورة الاستيطان «الوحشي» سياسة رسمية للحكومة الفاشية الراهنة، ومشاركة مباشرة لقطعان المستوطنين، جنباً إلى جنب الجيش الصهيوني، في التنكيل بالفلسطينيين. وما جرى في بلدة حوارة هو مقدّمة لعمليات مشابهة، تتمّ بمبادرة من المستوطِنين، بـ«حراسة» الجيش الصهيوني، الذي ساهم في إحراق البيوت والهجوم على السكّان، بحسب شهادات العديد منهم. وإذا كانت النُّخب الصهيونية العلمانية تعدّ التطهير العرقي هدفاً مركزيّاً، فتعمل على تحقيقه على نار حامية عندما تسمح الظروف بذلك، كما في 1948، وعلى نار هادئة، وبطريقة تدريجية، في أوضاع «عادية»، فإن التيّار الفاشي الحاكم راهناً، وانطلاقاً من قناعاته الدينية، سيجهد لتسريع هذه العملية بمعزل عن الظروف، على الرغم ممّا قد يستتبعه من إحراج لحلفاء إسرائيل الغربيين، وللمطبّعين العرب، فضلاً عن استعار الصراع على الأرض مع المقاومة الفلسطينية.
الظاهرة الفدائية الجديدة في فلسطين نموذج فريد في تجارب التحرّر الوطني، والتجارب الثورية بشكل عام. فمبادرة شبّان ينتمون إلى تنظيمات مختلفة، أو ليس لديهم انتماء سياسي محدّد، إلى تأسيس مجموعات مقاومة عسكرية محلّية، وتأطيرها، كـ«عرين الأسود» و«كتيبة جنين»، وقيامهم بشنّ هجمات على قوات الاحتلال والمستوطِنين، وما نجم عن ذلك من «عدوى»، أي من تشكّل مجموعات مشابهة في مدن وبلدات ومخيّمات الضفة الغربية، وحالة الاحتضان الشعبي المنقطعة النظير لظاهرة كان من الممكن أن توصف بـ«العفوية» أو «المغامرة» في زمن آخر، هي مؤشرات إلى نضوج ظروف ثورية في فلسطين تمهّد لانفجار عارم في مواجهة المحتلّين. الخطاب السياسي الواضح والمحدَّد للمقاومين، والذي يركّز على دحْر الاحتلال والاستيطان، وشجاعتهم النموذجية خلال المواجهات، ومواقف أهاليهم، وبخاصّة أمهاتهم، اللواتي يؤدّين دوراً محوريّاً في تعبئة الشعب للانضمام إلى المقاومة و/ أو دعْمها، وجنازات الشهداء التي تضمّ عشرات الآلاف، وهي مناسبة للتحشيد دعماً لخيار المقاومة، والأهمّ، تجاوب الآلاف مع نداءات مجموعات المقاومة للتظاهر ليلاً، بما يعنيه من تحوُّل الأخيرة إلى قيادة ميدانية للصراع مع العدو، كلّها معطيات تؤكّد أن حركة مقاومة شعبية من نمط جديد في طور التبلور، وهي ستتكامل وتتعاون مع فصائل المقاومة التي أضعفَها التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال. ولا شكّ في أن التصدّي لإرهاب الاحتلال والمستوطِنين، والردّ عليه بعمليات نوعيّة، وهو ما يحصل على الأرض منذ الأسابيع الماضية، سيزيد من احتدام المجابهة، وقد يؤدي إلى اتّساعها، ومشاركة المقاومة في غزة فيها، مع ما سينتج من كلّ ذلك من تبعات سياسية على الإقليم والعالم. فاشتعال الصراع في فلسطين، وبخاصّة في ظلّ وجود الحكومة الفاشية الحالية، يربك الولايات المتحدة التي تريد التركيز على أولوياتها الدولية الأخرى - والأمر نفسه ينسحب على الأوروبيين -، ويضعف موقف المطبّعين العرب، ويهدّد بخروج الأوضاع عن السيطرة في بلد لصيق بالضفة، كالأردن. حكومة المستوطِنين تستطيع اللعب بالنار، لكنها لن تقوى على السيطرة على حريق هائل قادم.