كشفت النيابة العامة في غزة، في مؤتمر عُقِد أمس، ملابسات حريق حي تل الزعتر في مخيم جباليا الذي أودى بحياة نحو 21 شخصاً، هم آباء وأمهات وأطفال ثلاثة أسر من عائلة أبو ريا. وفيما لم تكُن تفاصيل رواية النيابة «صادمة» على الصعيد المحلي، لأن جسم الرواية ذاتها وإن اختلف إخراجها، تداولها سكان القطاع على مدار الأيام الثلاثة الماضية، تكمن أهمية السردية الرسمية للحادث التي وظفت النيابة كل جهودها وطاقاتها للخروج بها، أن عائلة الضحايا أقرّت بها، ولو من خيار المضطر، بعد الفاجعة التي تحولت إلى قضية رأي عام، واستغلّتها جهات خارجية معادية لتأليب الشارع على المقاومة، وزرع بذور الفتنة وتراشق التهم جزافاً لشخصيات ذات حضور مجتمعي بوصفها متورطة في «عملية اغتيال مدبرة».
وبالإضافة إلى العشرات من الروايات الهوليودية، كان الناشط الإسرائيلي إيدي كوهين استغل في اليوم التالي للحادث أجواء الغموض حوله الذي تزامن مع وفاة أحد القادة الميدانين في كتائب «القسام» إثر جلطة قلبية مفاجئة. وزعم كوهين أن القيادي الشهيد محمد العجوري هو من ارتكب الجريمة، وأن «القسام» أقدم على «إعدامه لإغلاق الملف». تلك الإدعاءات على فجور كذبها، و«هوليوودية» سردها، تلقفتها عدد من الصفحات المشبوهة، كما تلقفها أخصام حركة «حماس» المهاجرين إلى الخارج، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأوا بالعزف على منوالها، بل طوروها إلى سرديات أكثر افتراءً وخطورة، لم تراعِ أياً من الخطوط الحمراء العائلية والأخلاقية.

وفي المقابل، دفع الاستغلال «السافل» للفاجعة الإنسانية البحتة، كلاً من العائلة والنيابة في القطاع، لملء فراغ السردية. وقد خرج مؤتمر وزارة الداخلية الذي حضرته العائلة وعدد هائل من الصحافيين ونقلته القنوات التلفزيونية المحلية مباشرة عبر شاشاتها، تحت وطأة حرج مركب، ومتعدد الأبعاد، لجهة أن الفاجعة تمسّ بسمعة عائلة مشهود لها بالنبوغ والثقافة والنجاح والاستقامة، وأياً تكون الحقيقة، فهي أكبر من طاقتها على التحمل، ولجهة الاتهامات والأكاذيب التي مسّت بسمعة شهيد مشهود له بأنه أكبر من أن يتلطخ تاريخه النقي بالأكاذيب، وهو مريض القلب الذي كان قد أجرى قبل مدة وجيزة عملية طارئة.

وفق تحقيقات النيابة، فإن الشاب نادر أبو ريا وهو أب لعائلة مكونة من أربعة أطفال، قضوا جميعاً في الحريق، كان قد دعا ليلة الخميس 17 تشرين الثاني الجاري، أخواته وأبنائهن ووالده ووالدته وأخيه المهندس ماهر العائد لتوه من رحلة سفر علمية خارجية، إلى حفلةٍ، نظمها ابتهاجاً بعودة الشقيق الأكبر، وتزامناً مع عيد ميلاد طفلته ريتا، وقد تجمع جميع أفراد العائلة حول شموع الميلاد في غرفة واحدة، فيما بادر هو باستعراض مهاراته بالتلاعب بالنار المشتعل بوقود البنزين، قبل أن يفقد السيطرة، ويمتد اللهب إلى غالون بنزين كان إلى جانبه. حينها، تمددت النار على نحو مفاجئ، فاضطر نادر لإغلاق الباب كي لا تلتهم النار عائلته، لكن الوقود تسرب من أسفل الباب، ما أدى إلى وفاة جميع أفراد عائلته وأبنائهن ووالده ووالدته، فيما أصيب هو بحروق غير بليغة، وقدرت مصادر طبية أن تكون وفاته نتيجة الاختناق.

كما قدمت النيابة في مؤتمرها تفسيراً لوجود إطارات مطاطية من «الكاوتشوك»، ووفاة الأب بعيداً عن باقي أفراد عائلته. ومع أن النيابة العامة بالإعلان عن تلك الرواية، أغلقت باب التحقيقات، فإنها فتحت أبواباً أخرى من الشكوك، رغم أنها قدمت كثيراً من الدلائل المصورة على صدقية الفرضية التي استندت إليها في تحليل الحدث.

في خلاصة الأمر، قدمت الأجهزة الرسمية الرواية، مراعيةً ما قدمته الأدلة الجنائية، وجملة من الاعتبارات المجتمعية والأهلية. ويمكن القول إنه قبل إطلاق موجة جديدة من التشكيك ذات الصلة بالتفاصيل الجزئية، فإن جسم ما نشر هو الحقيقة، وهوامش ما لم ينشر هو الفرضية، وبقية الحقيقة دُفِنت مع الشهود الذين أمسوا جميعاً ضحايا تحت التراب.