لم تكن العملية التي نفَّذتها قوات خاصة من جيش العدو وأجهزته الأمنية، في مدينة نابلس ضدّ مجموعة «عرين الأُسود»، فجر أمس، إلّا تجسيداً لمخاوف قيادة الكيان من تكريس ظاهرة المقاومة في الضفة الغربية، وقلقها من اتّساع نطاقها وتصاعد مخاطرها على أمن المستوطنين في مستوطنات الضفة وفي العمق الإسرائيلي. ويُعدّ انهماك قيادة الاحتلال على المستويَين الأمني والسياسي بهذه الظاهرة، ناتجاً من إدراكها خطورة أن تبدو «مردوعة» إزاء المجموعات العسكرية الناشئة. ولكنها، من جهة أخرى، تدرك أنها غير قادرة على اجتثاث روح المقاومة المترسّخة لدى الفلسطينيين، والتي تتجلّى في كلّ مرحلة وساحة بعناوين وأسماء مختلفة، وتتجسّد في «تكتيكات» تتناسب مع إجراءات العدو المستجدّة. وتُضاف إلى ما تَقدّم موازنة القيادة السياسية لانعكاسات الظاهرة المُشار إليها على التنافس السياسي والانتخابي، في ظلّ مزايدات اليمين الذي يمثّله زعيم المعارضة، بنيامين نتنياهو.لا تستطيع إسرائيل التسليم بوجود مجموعات مقاوِمة في الضفة الغربية، خصوصاً عندما تكون هذه المجموعات نشِطة ومبادِرة، وتتحوّل إلى مصدر تهديد داهم للاحتلال ومستوطنيه، وإلى عنوان جاذب للشباب الفلسطيني أيضاً. لذلك، وعلى رغم إدراك الأجهزة السياسية والأمنية أن مواجهتها قد تؤدّي إلى تأجيج الشارع الفلسطيني، إلّا أنها تجد نفسها مضّطرة إلى الانتقاء بين الخيارات على قاعدة الأقلّ خطورة. ولعلّ الصورة المتشكَّلة في وعْي مؤسّسات التقدير والقرار في كيان العدو إزاء ظاهرة «عرين الأسود»، عبَّر عنها رئيس الاستخبارات السابق، اللواء تامير هايمن، الذي لفت إلى أنها «تمثّل ظاهرة واسعة لشباب جيل الألفية، من 16 إلى 24 سنة، الذين مَقتوا المؤسّسات وطريقة الحُكم القائمة»، مضيفاً أن «من موارد الخطورة الكامنة فيهم (عرين الأسود) أنهم يمثّلون نوعاً من الوطنية التي يلتفّ حولها الفلسطينيون عبر شبكات التواصل الاجتماعي». واستناداً إلى هذه النظرة، فإن قراءة في السياق الأوسع، تدفع إلى التقدير، بحسب هايمن أيضاً، بوجود «خلايا أخرى نائمة أو مرتبطة بهم في كلّ أرجاء الضفة وفي المدن العربية في إسرائيل». ويتّضح من ذلك أن ظاهرة «العرين» وما سبقها وسيليها، تُجسّد فشل السياسة الإسرائيلية القائمة منذ سنوات على كيّ وعي الشباب الفلسطيني الصاعد بهدف بثّ روح اليأس في نفوسه، وإبعاده عن خيار المقاومة.
هدف قيادة العدو هو أن تحفر هذه العمليات في وعي المقاومين أنهم ليسوا في مأمن


وتحتلّ الضفة، موطن «المقاومين الجدد»، موقعاً خاصاً في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، بسبب مساحتها وموقعها الجغرافي الذي يتاخم كيان الاحتلال في فلسطين المحتلة عام 48، في الشمال والوسط والجنوب، وهو ما جعلها تشغل رأس أولويات القيادتَين السياسية والأمنية، وتفرض عليهما التعامل بحزم وحسم مع أيّ ظاهرة مقاومة هناك منعاً لتصاعدها واتّساعها، مع أن التجربة تؤكد فشل هذه السياسة التي بدا أنها تساهم أيضاً في تسريع إعادة إنتاج تلك الظواهر بصيغ وأشكال جديدة. وفي هذا السياق، وجدت سلطات العدو، منذ تبلور مجموعة «عرين الأسود» كقوّة «ثورية» بحسب تعبير «معهد أبحاث الأمن القومي»، نفسها أمام تحدّي اتّخاذ قرار ناجع إزاء المجموعة. إذ ثبت، من خلال التجربة، أن سياسة الاحتواء معها غير مجدية، بل قد تساهم في تمدّدها ومنحها هامشاً أوسع في المبادرة. وفي الوقت نفسه، فإن الظروف القائمة لا تسمح بتنفيذ عملية مشابهة لعملية «السور الواقي» (الاجتياح الإسرائيلي لشمال الضفة في نيسان 2002). وفي ضوء القيود المتقدّمة، اختارت قيادة الاحتلال تكتيك العمليات الخاصة الموضعية، فبادرت إلى إعادة تفعيل سياسة الاغتيالات المركّزة، التي استهدفت عبرها بدايةً أحد قياديي «عرين الأسود» تامر الكيلاني، وتَكرّر الأمر بأسلوب مختلف عبر عملية خاصة نفّذتها قوات العدو فجر أمس في مدينة نابلس، وأدّت إلى استشهاد 5 فلسطينيين، بينهم القيادي البارز في المجموعة المقاوِمة وديع الحوح، وجرح آخرين. لكن هذا التكتيك يحتاج إلى وقت أطول لتحقيق أهدافه، على فرْض إمكانية تَحقّقها، وقد تتخلّله ردود فعل أشدّ وقعاً، وليس من الواضح طبيعة وحجم التداعيات التي يمكن أن تترتّب عليه.
مع ذلك، ينبغي عدم إغفال حقيقة أن قادة العدو كثيراً ما يحاولون تعزيز مكانتهم الشعبية عبر سياسات أكثر تطرّفاً في مواجهة الشعب الفلسطيني. وإذا ما كانت الأجواء تسمح بعمليات عسكرية، فإن ذلك يشكّل بالنسبة لهم فرصة لـ«الاقتراع بدماء الفلسطينيين». وفي هذا الإطار، يأتي حديث رئيس حكومة العدو، يائير لابيد، عن أن «إسرائيل لن ترتدع عن العمل من أجل أمنها». ومع أن هذا الموقف تقليدي في سياقه ومناسبته، إلا أنه يهدف أيضاً إلى محاولة توظيف العمليات ضدّ «عرين الأسود»، على المستوى الانتخابي. وهو مشهد يحتاج إليه لابيد، ووزير أمنه بني غانتس، في مواجهة اليمين الإسرائيلي، عبر الإيحاء بأنهما ليسا أقلّ تطرفاً وإجراماً بحق الشعب الفلسطيني، على أمل أن يساهم ذلك في استقطاب جزء من جمهور يمين الوسط على الأقلّ، وأيضاً تبديد الصورة التي يحاول أن يروّجها نتنياهو عنهما، حول «عدم كفاءتهما في مواجهة المخاطر الأمنية».
لكن الهدف الأهم لقيادة العدو، يتمثّل في أن تحفر هذه العمليات في وعي الشباب المقاوِم، أنه ليس في مأمن من استهداف أجهزة الأمن الإسرائيلية. كما تُراهن على إسهامها في تحويل أولوية المقاومين نحو الحفاظ على حياتهم كأفراد، ووجودهم كمجموعات، بدلاً من الانهماك في التخطيط للمبادرة إلى عمليات قاسية. لكن نموذج الشهيد عدي التميمي أنذر بسقوط هذا الرهان، حيث الخوف الإسرائيلي يكمن الآن في أن يتحوّل الخيار الذي انتهجه التميمي إلى نموذج يُقتدى به. وبذلك، يتحوَّل كلّ مقاوم مطارَد إلى مطارِد.
في الخلاصة، وأياً كان ما ستؤول إليه هذه المواجهة بين «عرين الأسود» وقوات الاحتلال، إلا أن القدر المتيقّن هو أنها ستكون محطّة جديدة تجسّد تصميم الشعب الفلسطيني على مواصلة مقاومته على رغم كلّ الظروف القاهرة داخلياً وإقليمياً. كما أنها تُظهر ارتقاءً في الأسلوب، حيث يثبت الشعب الفلسطيني مجدّداً أنه قادر على ابتداع المزيد من الأساليب حيال إجراءات العدو، وإحداث قفزة إضافية في سياق مسار يتكامل مع المسار التصاعدي لمحور المقاومة عموماً.