فتَح اغتيال جيش الاحتلال الإسرائيلي، المقاوم إبراهيم النابلسي ورفيقه إسلام صبوح، في البلدة القديمة في مدينة نابلس، بعد اشتباك مسلّح استمرّ ساعات، الحديث مرّة أخرى عن «كتائب شهداء الأقصى»، الجناح العسكري لحركة «فتح»، والتي يُعدّ النابلسي قائدها العام في نابلس. شكّل اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول 2000، فرصة مواتية لـ«فتح» للعودة إلى الكفاح المسلّح بعد سنوات من «سلام أوسلو»؛ فأسّست «شهداء الأقصى» كذراع مسلّحة لها، للانخراط في فعاليات الانتفاضة والعمليات الفدائية، مستفيدةً من خبرة العديد من عناصرها الذين كانوا في أجنحتها العسكرية في الانتفاضة الأولى، والتي عُرفت بـ«مجموعات الفهد الأسود»، أو الخبرة العسكرية لبعض عناصر الأجهزة الأمنية العائدين. وحظيت الكتائب بدعم الرئيس الراحل، ياسر عرفات، الذي كلّف القيادي «الفتحاوي» الأسير، مروان البرغوثي، بتأسيسها. وقادها الأسير ناصر عويس من مخيم بلاطة، ونالت كامل الدعم المالي واللوجستي لعملها، ونجحت خلال سنوات الانتفاضة في تنفيذ المئات من العمليات الفدائية، وركّزت عملها المقاوِم على استهداف المستوطنين في الشوارع الاستيطانية في الضفة الغربية، وكذلك تنفيذ العمليات الاستشهادية، وبرزت فيها قيادات وازنة، مِن مِثل: الشهيد عاطف عبيات، ورائد الكرمي، ونايف أبو شرخ، والأسير ناصر عويس.
وبدت «كتائب شهداء الأقصى»، منذ تشكيلها عام 2000 حتى عام 2005، واضحة الهوية والهيكلية والقيادة، إلى أن تولّى محمود عباس سُدّة رئاسة السلطة الفلسطينية، حيث عمل على تفكيكها انطلاقاً من معارضته الشرسة للعمل المقاوِم المسلّح. وضمن هذا التَوجّه، اشتغل عباس على خطّة واضحة لتحقيق ذلك، من خلال الاتفاق مع الإسرائيليين على منْح عفوٍ عام عن مقاتلي الكتائب والتوقّف عن ملاحقتهم، مقابل تسليمهم أسلحتهم وذخائرهم للسلطة، التي تعمل في المقابل على تفريغهم في الأجهزة الأمنية. وبالفعل، وافق المئات من المقاتلين على تلك الصفقة، لتنجح الخطّة بنسبة كبيرة، ويُتوّجها عباس بالمرسوم الرئاسي رقم (17) لسنة 2007، والذي حظر بموجبه «كافة الميليشيات المسلّحة والتشكيلات العسكرية أو شبه العسكرية أيّاً كانت تابعيتها»، كما حظر على «الميليشيات المسلحة والتشكيلات العسكرية أو شبه العسكرية غير النظامية القيام بأيّ نشاطات سرّية أو علنية، وكلّ مَن يساعدها أو يقدّم أيّ خدمات لها يكون عرضة للمساءلة الجزائية والإدارية». وعلى رغم ما تَقدّم، رفض العديد من العناصر الاتفاق، وبقوا متمسّكين بسلاحهم وملاحَقين، وقد استشهد العديد منهم واعتُقل آخرون، لكن تلك التَغيّرات أحدثت فرقاً هائلاً؛ إذ لم تَعُد حركة «فتح» تتبنّى رسمياً الجناح العسكري كما مِن قبل، وهو ما أثّر على دعم هؤلاء المقاومين وتمويلهم وتسليحهم.
دفَع هذا الواقع العديد من عناصر «شهداء الأقصى» الذين رفضوا السيْر في طريق الإعفاء والتسوية، إلى التعاون مع المقاومين من الفصائل الأخرى، وأحياناً تلقّي الدعم والمساعدة منهم، وهو ما تداوله مواطنون في مدينة نابلس أخيراً حول توفير مقاومين من «سرايا القدس» السلاح والذخيرة للشهيد إبراهيم النابلسي في الأسابيع الأخيرة، كما لجأ بعض المقاتلين منهم إلى شراء السلاح والذخيرة من ماله الخاص، والذي حصل عليه من بيع بعض ممتلكاته أو اللجوء إلى الاستدانة. وعلى رغم تفكيك هيكلية الكتائب، إلّا أن ثلّة من أبنائها شكّلوا مجموعات مستقلّة، ونفّذوا عمليات فردية، ومن هؤلاء قائد «شهداء الأقصى» سابقاً وعضو المجلس الثوري، الأسير زكريا الزبيدي، الذي كان قد شمله اتفاق الإعفاء السابق الذي أبرمه عباس مع الإسرائيليين؛ إذ مارس المقاومة المسلّحة بعد ذلك، ونفّذ عمليات إطلاق نار عدّة ضدّ المستوطنين وجنود الاحتلال وفق اتّهامات العدو له، كما تعرّض سابقاً للاعتقال لدى الأجهزة الأمنية على خلفية عمله المقاوم، مِثله مثل العشرات من المقاومين. كذلك، قام العديد من عناصر الأجهزة الأمنية بتنفيذ عمليات فدائية فردية.
ولا يزال عناصر «شهداء الأقصى» حاضرين في الميدان، لكنّهم يفتقدون إلى القيادة المركزية، على عكْس بقيّة التشكيلات العسكرية، ويتعرّضون للملاحقة بين حين وآخر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية. ولذلك، ليس غريباً أن معظمهم قد تعرّضوا للاعتقال لديها، على عكْس واقع الكتائب أو التشكيلات العسكرية المنبثقة منها في قطاع غزة، والتي تتمتّع بهيكلية ومركزية أفضل بكثير، إضافة إلى تدريب وتسليح يفوق نظيره في الضفة بمئات المرّات، من دون أن يكون هناك ارتباط واضح بينها وبين قيادة حركة «فتح»، وتحديداً السياسية. لكن عضو المجلس الثوري لحركة «فتح»، وأحد قادة معركة مخيم جنين، جمال حويل، يقول، في حديث إلى «الأخبار»، إن «شهداء الأقصى لم تكن يوماً تتمتّع بهيكلية تنظيمية كما بقيّة الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية»، مضيفاً أنها «لم تؤسَّس بقرار حتى يتمّ حلّها بقرار، وبالتالي الرئيس لم يَقُم بحلّها، لأنها أصلاً ليست موجودة في النظام الداخلي لحركة فتح». ويؤكد حويل أن «الكتائب موجودة ولا تزال كذلك، وهي عبارة عن مبادرات من شباب فتح المخلصين الذين يدافعون عن شعبهم، وهي عبارة عن تنظيم سلسلة أو حلقات، وكلّ محافظة هي حلقة، وداخلها مجموعة حلقات في المدينة والمخيم والريف، وكلّ مجموعة أو كلّ شخص ينفّذ ما يراه مناسباً، ولكنّها ليست تنظيماً هرمياً له قائد هيئة أركان».
لا يزال عناصر «شهداء الأقصى» حاضرين في الميدان، لكنّهم يفتقدون إلى القيادة المركزية


ويرفض حويل ما يقال عن ضمور «شهداء الأقصى» في الضفة، وغياب زخم عملياتها، أسوةً بما كان حاصلاً في الانتفاضة الثانية، متسائلاً: «هل هناك حضور أكبر من عملية رعد حازم وضياء حمارشة؟»، معتبراً أن «إشكالية زخم الأجنحة العسكرية هي إشكالية عامّة، مقارنة بما كان سابقاً». ويلفت إلى أن «القائد داوود الزبيدي، شقيق القائد زكريا زبيدي، كان يقود مجموعات، وقد استشهد في جنين وعمره 43 عاماً وهو أسير لمدّة 15 عاماً، وقد كان الحاضنة لكلّ المقاومين، وكذلك استشهد رعد حازم وضياء حمارشة، والآن والد رعد مطلوب للاحتلال وملاحَق، وهذا يدلّل على أن كتائب شهداء الأقصى هي أكثر مَن لديها زخم وحضور في الضفة الغربية». ويضيف أن «إبراهيم النابلسي ورفاقه في كتائب الأقصى هم مَن خاضوا الاشتباكات في مدينة نابلس إلى جانب بعض المناضلين من الفصائل الأخرى، والنابلسي هو من كان الرمز والأيقونة، وجندي اليمام الذي قُتل في مخيم جنين اتُّهم بقتله عناصر من شهداء الأقصى ومن الأجهزة الأمنية». ويَعتبر أنه «لم يطرأ تغيّر على عمل الكتائب»، موضحاً أنه «سابقاً، كان مروان البرغوثي يشكّل المؤسّس والمرجعية العليا، وفي فترة أخرى كان الأسير زكريا الزبيدي». ويرفض فكرة عدم اعتراف حركة «فتح» بـ«شهداء الأقصى»، قائلاً: «على العكس، حين تحْدث عمليات للكتائب، يزور أعضاء من اللجنة المركزية بيوت العزاء، ويلقون الكلمات التي تشيد بالشهداء، مع العلم أن هناك اعتبارات سياسية مفهومة وتؤخذ في الحسبان»، مقرّاً في الوقت نفسه بأن اللجوء إلى المقاومة المسلّحة «اجتهادات من أبناء حركة فتح، ليست مُوجَّهة من أيّ أحد، وبالتالي هم مَن يخطّطون ويموّلون ويعدّون وينفّذون وبإمكانات بسيطة».



لم يأخذوه... إلّا غيلةً
ولد إبراهيم النابلسي (26 عاماً) في حارة الحبلة في البلدة القديمة في مدينة نابلس، وبات مطارَداً لقوات الاحتلال منذ أكثر من عام، حيث تتّهمه الأخيرة بالمسؤولية عن العديد من عمليات إطلاق النار على جنودها والمستوطنين، والوقوف خلْف إصابة قائد جيش العدو شمال الضفة، عند قبر يوسف، أواخر حزيران الماضي. تحوَّل النابلسي إلى أيقونة في مدينة نابلس، بعد نجاته من نحو 4 محاولات اغتيال خلال الأشهر الماضية، إحداها كانت في شهر شباط، حين اقتحمت قوّات خاصة المدينة نهاراً، وحاصرت مركبة في حي المخفية، وأطلقت النار عليها لاعتقادها بوجود النابلسي فيها، ليستشهد رفاقه: أدهم الشيشاني، وأشرف مبسلط، ومحمد الدخيل، فيما نجا هو من تلك المحاولة وشوهد أثناء مشاركته في تشييعهم باكياً حزيناً. كما نجا النابلسي، قبل أسابيع، من محاولة اغتيال أخرى في حارة الياسمينة، بعد اقتحامها من قِبَل قوّات خاصة إسرائيلية ومحاصرة أحد المباني والاشتباك مع المقاومين، بينما استشهد الشابّان محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح. يحمل النابلسي كنية «أبو فتحي» منذ سنوات، وقد أَطلق هذه الكنية على نفسه تيمُّناً بقائد «كتائب شهداء الأقصى» في نابلس، نايف أبو شرخ، الذي اغتيل في البلدة القديمة عام 2004، مع 6 مقاومين آخرين من الكتائب و«حماس» و«الجهاد الإسلامي». كان النابلسي دوماً يردّد: «ما راح ياخذوني إلا اغتيال»، في حين يقول والده: «هو مَن كان يطارد الاحتلال، وكان يَخرج للاشتباك مع الجيش عندما يسمع أن هناك اشتباكاً».