لا تملك إسرائيل غير صُنع الحرب أو التهديد بها. وكلّ ما لا يندرج في هذا الإطار لا قيمة فعلية له، ولا يخدم الفكرة الأساس من استزراعها في قلب المنطقة العربية، بل إن مكمن القوة الأساس الذي أتاح لإسرائيل الاستمرار والديمومة هو في القدرة، غير المقيّدة، على شنّ الحروب والتهديد بها. فهذا الكيان، على ما صار مكشوفاً، لا يمكنه العيش أو الاستمرار إلّا بشنّ الحروب والتهديد بها. حرص الغرب النظري والعملي، وإصراره الثابت على صنع وضمان التفوّق العسكري الإسرائيلي وتأكيده، يفسّر جوانب من هذه الحقيقة المعروفة، لكنه، في الوقت نفسه، وهنا تكمن الكارثة الإسرائيلية، يكشف عن هشاشة البنيان ومقدار الضعف العميق الذي يصعب أو يستحيل علاجه.إنها المعضلة التي تؤرّق إسرائيل ونخبتها الغربية. فالنخبة التي تستشعر طبيعة المخاطر الوجودية التي تنطوي عليها هذه الحقيقة، لا تملك غير الاندفاع نحو ارتكاب المزيد والمزيد من الحماقات، وليس آخرها العدوان المفتوح، اليوم، على غزة بوهم دفْع الاستحقاقات التي تحاصر الحاضر الإسرائيلي وتتهدّد مستقبله القاتم. ولا أدلّ على ذلك من ارتداع الكيان المعلَن بوجه لبنان، ودور هذا الارتداع في تعميق مآزق إسرائيل ومفاقمة غرق «ساستها» وعسكرييها في سلسلة لا تتوقّف من الصراعات والأزمات البينية. فمن دون القدرة على شنّ الحرب أو التهديد بها، لا أمل باستمرار الكيان ولو للحظة إضافية واحدة، وخصوصاً أن أسباب البقاء الأخرى بعيدة عن المتناول، إن لم نَقُل إنها صارت مستحيلة؛ فلا كيّ الوعي العربي وإخضاعه نفَع، ولا التطبيع المأمول مع حثالة العرب ومرذوليهم سينفع... والسبب في كلّ ذلك أن ميزان القوى اختلّ لمصلحة المقاومة اختلالاً لا رجعة فيه، وأكذوبة التفوّق العسكري واليد الطويلة باتت من الماضي السحيق.
إنه الجديد النوعي الذي يؤرّق قادة الكيان ورعاتهم الغربيين. فزمن صنع الحرب والانتصار فيها، وتالياً التمديد من عمر الكيان وتثبيته قد ولّى إلى غير رجعة. وهنا، يكمن أساس معضلة إسرائيل، والذي يجعلها تلمس اقتراب الأجل المحتوم وتحاول تأخيره. فتعاظُم قوى المقاومة، وبلوغها حدّ فرض المعادلات، أفقد إسرائيل شريان حياتها المتمثّل في القدرة على شنّ الحرب، وإن لم يُفقدها القدرة على التهديد بها. لكن، وكما هو معلوم، فإن التهديد بالحرب وحده لا يكفي، ولا يقلّل من المخاطر الكبيرة، بل إن من شأن الاقتصار على التهديد بالحرب، مع الخوف من الإقدام عليها، وهي حال إسرائيل اليوم، أن يزيد من صعوبة أحوالها ويطيح بما بقي من أساسات الأسطورة المزعومة. وما بقي منها أكثر من قليل، ولا يعوَّل عليه في تعويض الخسائر المتدحرجة يوماً بعد آخر. والأخطر بالنسبة إلى إسرائيل، وهو ما بات جليّاً في سلوكيات قادتها وتصريحاتهم، وسعيهم إلى الظهور بمظهر القادر، أن الحرب على غزة وحتى لو حقّقت مراميها كاملة، وهذا موضع شكّ أكيد، تبدو بلا أهداف واضحة، بل إن هذه الأهداف، وقياساً بعادات إسرائيل الحربية وتقاليدها، تبدو بالغة التواضع إن لم تكن مبهمة. فالحديث الإسرائيلي المرافِق للعدوان على غزة يكاد يقتصر على عناوين دفاعية بحتة، من نوع الحدّ من القدرات العسكرية لـ«الجهاد الإسلامي»، أو ضمان أمن مناطق «الغلاف»... وهذا مؤشّر خطير على الضعف، ومرآة حيّة له، وسيكون له ما بعده.
إن إسرائيل اليوم هي في أشدّ لحظات ضعفها وهزالها. والبنيان العدواني الذي أقامه الغرب للسيطرة على المنطقة وثرواتها يوشك على الانهيار إن لم يكن قد شرع به. الحرب على غزة هي، في جوهرها العميق، محاولة هروب إسرائيلية إلى الأمام، وستكون لها، بصرف النظر عن حجم الدمار وأعداد الضحايا، نتائج وخيمة على حاضر الكيان ومستقبله، ولن تساعده في التخفيف من أزماته العميقة، ولن تمكّنه من كسر الحصار الذي ضربه سيد المقاومة اللبنانية، حسن نصر الله، من خلال معادلة «الغاز بالغاز»، وهو الهدف الضمني من مجمل هذه الجولة وغايته، بل إن محاولة الهروب من أسْر تلك المعادلة، بالعدوان على غزّة، ستنقل الصراع مع العدو إلى مربع لم يخطر على بال قادته حتى في أسوأ كوابيسهم. الخلاصة أن ورقة شنّ الحرب أو التهديد بها واحدة من الأوراق الإسرائيلية الثمينة، والثمينة جداً، ومن دونها لا تعود إسرائيل إسرائيل، وتفقد ماهية الدور والوظيفة اللذين قامت عليهما واستمرّت بفضلهما كلّ هذا الوقت. لكن أزمة إسرائيل الأكبر، التي دفعتها نحو الحرب على غزة، تكمن في عجزها عن الردّ على معادلة المقاومة اللبنانية وتمكّن المقاومة من سلبها ورقتها الثمينة، ووضعها بمواجهة مرآة ضعفها الحقيقي والمصير الذي سينجم عنه لا محالة.
القراءة العميقة للحرب على غزة تشي بحقيقة ضيق الهامش الإسرائيلي وضعفه البالغ، كما تشي برعونة قد لا تكون بلا عواقب. والمؤكد أن العدوان هو بديل من مستحيل لبناني صنعته المقاومة، وجعلت من إسرائيل نمراً من ورق بات يستجدي الدفاع بعدما أدمن الهجوم.
لم يعُد بوسع إسرائيل إلا مفاقمة مآزقها التي تحاصرها في السياسة والأمن والعسكر. والكيان الذي لم يكن يعرف غير الحرب والإخضاع، أو التهديد بها يتراجع إلى حدود السعي إلى الحفاظ على أمن مستوطناته في «الغلاف». الخلاصة التي يجب على الجميع معرفتها أن إسرائيل هي نفسها. لم تتغيّر ولم تتبدّل. ما تغيّر وتبدّل هو في المقاومة، وقدراتها التي أتاحت، للمقاومة اللبنانية، وعلى لسان قائدها، إطلاق التهديد، غير المسبوق عربياً، بالحرب والاستعداد لخوضها. وهنا يكمن المفتاح لفهم حقيقي وملموس للحرب على غزة، والتي تعكس حال التراجع الإسرائيلي الآيل إلى التعاظم، شاء من شاء وأبى من أبى من عرب أذلّاء يتطوّعون للوساطة دفاعاً عن إسرائيل بدلاً من نصرة غزة، ومن غرب منحاز إلى جانب محميّته المجرمة.