أجمع القادة الصهاينة، في الحكومة والمعارضة على السواء، على وصْف المشهد الأمني الإسرائيلي في أعقاب العمليات الثلاث التي أدّت إلى مقتل 11 إسرائيلياً خلال أسبوع، بأنه الأشدّ قسوة وإيلاماً منذ سنوات، فيما أظهرت الإجراءات والقرارات السياسية والأمنية المُتّخذة عقب تلك العمليات، هشاشة الأمن الإسرائيلي، وهو ما أنبأ به مثلاً توجيه رؤساء البلديات، سكّان المدن، بإبداء الحذر، في إقرار ضمني بإمكانية تحوّل أيّ مدينة إلى ساحة يتجوّل فيها مقاوم بسلاحه. وعلى رغم أن الهجوم الأوّل في بئر السبع أثار المخاوف من أن يدفع نجاحه مقاومين آخرين إلى محاكاته، إلّا أنه بقي لدى الأجهزة المختصّة قدْرٌ من الرهان على إمكانية احتوائه، وفي أسوأ الأحوال تكراره بأدوات ما دون التقليدية (الدهس أو أداة حادّة). إلّا أنه في أعقاب العملية الثانية في الخضيرة، تصاعَد منسوب الخوف في الكيان، خصوصاً أن المنفّذ استخدم فيها أسلحة نارية، وكان يمكن أن يوقع خسائر أكبر. وممّا ضاعف الخشية الإسرائيلية أيضاً، هو تحدّر المنفّذين من الأراضي المحتلّة عام 1948، بعدما كان هذا السيناريو في أسفل سلّم الترجيحات؛ لمجموعة اعتبارات من بينها التحام فلسطينيّي الداخل مع البيئة الإسرائيلية، عملياتياً وأمنياً. وعلى إثر ذلك، قرّر جيش العدو نشر أربع كتائب من أجل تعزيز القدرة على ضبط الأمن، بل وصل به الأمر إلى حدّ منع السير المنفرد والتدريبات في المناطق العربية، في مؤشّر واضح إلى فقدان الشعور بالأمن، حتى بالنسبة إلى الجنود الذين يُفترض أنهم هم مَن يوفّرون الأمن للمستوطنين. لكن لم تمضِ أيّام قليلة، حتى جاءت عملية «بني براك»، ليدرك القادة الصهاينة في هذه اللحظة أنهم في ذروة موجة قاتلة من العمليات، وفق ما أقرّ به رئيس وزراء العدو، نفتالي بينت، مستعيدين كابوس الانتفاضة الثانية، ومتوقّعين أن يتواصل ذلك المسلسل ويتفاقم، الأمر الذي دفع الجيش إلى اتّخاذ قرار بإسناد الشرطة بمزيد من الكتائب العسكرية.على المقلب الفلسطيني، جسّدت هذه الهجمات إرادة الفلسطينيين مواصلة مقاومة الاحتلال، وابتداع أساليب تلتفّ على إجراءاته الأمنية، بحسب الظروف السياسية والقانونية والأمنية لكلّ منطقة (الضفة، وغزة، والـ48). كما عزَّزت العمليات الأخيرة مؤشّرات التحوّل في قواعد المواجهة على أرض فلسطين، والمتمثّل في تكامل الساحات الثلاث. وهو تحوّلٌ من شأنه، إذا ما تطوَّر وتكرَّس، أن يغيّر معادلة الصراع مع إسرائيل بشكل جذري، وأن يخلّف تداعيات إقليمية من الصعب الإحاطة بها. وبعدما شكّلت الهَبّة التي رافقت معركة «سيف القدس» سابقةً استند إليها الجيش والشرطة لصياغة سيناريوات المرحلة المقبلة، ومن بينها تمدّد أيّ مواجهة عسكرية إلى الجبهة الداخلية، ستتحوّل الموجة الحالية، هي الأخرى، إلى سابقة إضافية لاستخلاص العبر، على قاعدة أن كلّ فلسطين قد تتحوّل إلى ساحة مواجهة، وبأساليب وتكتيكات تسلب الأمن من المحتلّين. كذلك، أظهر الفلسطينيون، من خلال أحدث هجماتهم، قدرتهم على إحباط أحد أهمّ أهداف سياسة التطبيع، والمتمثّل في بثّ روح الإحباط في صفوف الشعب الفلسطيني، وإنهاء مفهوم القضية الفلسطينية، واستبدال آخر به يقوم على مجرّد وجود خلافات هنا أو هناك مع «دولة إسرائيل»، التي يُراد فرضها كجزء طبيعي من خارطة المنطقة، ومن الممكن نسج التحالفات معها على قاعدة «المصالح المشتركة».
جسّدت الهجمات الأخيرة إرادة الفلسطينيين مواصلة مقاومة الاحتلال، وابتداع أساليب تلتفّ على إجراءاته الأمنية


وبالاستناد إلى هذا الغطاء الذي وفّرته أنظمة التطبيع للسياسة العدوانية الإسرائيلية، وإلى ثلاثة أعمدة رئيسة أخرى متمثّلة، أولاً، في الطوق العربي المفروض على الفلسطينيين بهدف الحؤول دون وصول السلاح إليهم؛ وثانياً، في الإجراءات الأمنية والعملياتية الإسرائيلية بما يتناسب مع ظروف كلّ ساحة فلسطينية؛ وثالثاً، التنسيق مع أجهزة أمن السلطة، بلور العدو أولوياته وتصنيفه لدرجات المخاطر، قبل أن ينجح الفلسطينيون، من خلال العمليات الثلاث، في إعادة جدولة اهتماماته، عبر فرض الجبهة الفلسطينية بساحاتها الثلاث على رأس أولوياته، وهو ما تخشى تل أبيب أن يُقوّض جهودها في مواجهة التهديدات الإقليمية الأخرى، بدءاً من الجبهة الشمالية وصولاً إلى إيران. وعلى رغم إدراك إسرائيل أن استمرار هذا النمط من العمليات من شأنه تقييد سياسة الإحباط التي تشكّل مرتكزاً رئيساً في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، وتضعيف فاعلية أدوات الردّ والردع، إلّا أن القيادة الإسرائيلية تجد نفسها مجبَرة على التحرّك بين حدَّين: عدم التسبّب بمواجهة واسعة تعرف مسبقاً أنها غير قابلة للحسم؛ وعدم الظهور بمظهر المقيَّد والمتردّد والمفتقر إلى الوسائل الناجعة؛ إذ إن نقطة المقتل بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هو أن تبدو مكتفية بالإجراءات الوقائية أو حتى بالمبادرات العملياتية التقليدية التي باتت تفتقد إلى عنصرَي الإبداع والمفاجأة.
في الخلاصة، وعلى الرغم من الهالة الإعلامية التي أُحيطت بها قمّتا شرم الشيخ والنقب، والمبالغة في الرهان على تحالفات إقليمية في مواجهة التهديدات المتصاعدة للأمن القومي الإسرائيلي، بدءاً من «حزب الله» في لبنان وصولاً إلى إيران، مروراً بسوريا والعراق واليمن، إلّا أن كلّ ذلك يمكن أن يتبخّر في اللحظة التي يقرّر فيها الشعب الفلسطيني تزخيم انتفاضته بأشكالها وأساليبها المتنوّعة والمتكاملة. وهي أساليب يمكن لها، وفق ما أظهرته العمليات الثلاث، أن تسلب جنود العدو ومستوطنيه الشعور بالأمن، على رغم ما يمتلكه هذا الكيان من قدرات استراتيجية وتدميرية هائلة. ولعلّ الظرف الحالي هو الأمثل بالنسبة إلى شعب فلسطين للارتقاء بمستوى فعله المقاوم، بالنظر إلى أن الكيان العبري مضطرّ لتوجيه بوصلة أولوياته وقدراته نحو التهديد الإستراتيجي الإقليمي المتصاعد، في ما يمثّل متغيّراً نوعياً يمنح شعب فلسطين هامشاً أوسع في المبادرة والردّ بالاستناد إلى عمق استراتيجي داعم، خصوصاً أن هذه الأولوية، التي تعبّر عن أخطار وجودية محدقة بالكيان، لا يُتوقّع أن تتراجع، أقلّه في الأفق المنظور.