لا تزال عملية باب السلسلة في القدس المحتلة (الأحد الماضي) تضغط على صانع القرار الأمني في تل أبيب، والذي يستنفر طاقاته العسكرية والاستخبارية للحؤول دون تداعيات مُقدَّرة لها، على رأسها إمكانية جرّها عمليات فلسطينية مماثلة، بالتأسيس على تأثيراتها العامّة في الوعي الفلسطيني، فضلاً عمّا قد يتبعها من ردود وردود مضادّة، الأمر الذي قد يفتح الباب واسعاً على سيناريوات سيّئة بالنسبة إلى الاحتلال. وبالنظر إلى أن العملية التي نفّذها الشهيد فادي أبو شخيدم (42 عاماً) من مخيم شعفاط (أسفرت عن مقتل إسرائيلي وجرح ثلاثة) هي الأولى من نوعها منذ عام 2018، ولم تُنفَّذ ارتجالياً بواسطة سكين أو أداة حادّة مع خسائر محدودة، بل بواسطة بندقية رشّاشة من نوع «كارلو» تُعدّ متوفّرة نسبياً لدى الفلسطينيين كونها تُصنَّع محلّياً (خصوصاً في مخيّمات اللاجئين في الضفة الغربية)، فسيكون على الاحتلال وشركائه في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، تكثيف جهودهم الأمنية والاستخبارية وتبعاً لها عمليات الملاحقة، من أجل تحييد مصادر هكذا أسلحة، إضافة إلى تحييد الحافزية التي ولّدتها العملية نفسها لدى الفلسطينيين، نتيجة الخسائر البشرية التي أوقعتها في صفوف المحتلّين. في الوقت نفسه، ستكون المؤسسة الأمنية في تل أبيب مَعنيّة بأن تُطمئِن المستوطنين في القدس والضفة المحتلّتَين، إلى أن حادثة الأحد تأتي في سياق نجاح واحد شاذّ، لا يلغي سطوة إسرائيل وتحكّمها الميداني وقدرتها على منع العمليات والخسائر في أوساط المستوطنين. على أن سياسة «الإحباط المسبق» و«تدفيع الأثمان»، بالجهود الإسرائيلية الخاصة أو تلك المشتركة مع الأجهزة الفلسطينية، والتي نجحت - نسبياً - في منْع التنظيمات والكيانات شبه العسكرية من تنفيذ عمليات في الأراضي المحتلّة، لم تفلح البتّة في إطفاء الحافزية لدى أفراد فلسطينيين لا يزالون يبادرون إلى عمليات محدودة التأثير المادّي المباشر، كما هو حال عمليات الطعن الارتجالية، وإن كانوا يدركون مسبقاً أنهم سيكونون عرضة لاحقاً للتصفية بدم بارد، مع أو من دون خسائر في صفوف العدو. وإذا كانت إجراءات الاحتلال القمعية خلال عمليات الطعن وبعدها، والتي تطاول المنفّذ نفسه عبر قتله بدم بارد واحتجاز جسده، وأيضاً عبر تجريم عائلته وسجن أبنائها وهدم منازلهم، فشلت في إسكات الدافعية المرتفعة لدى الفلسطينيين لمهاجمة المستوطنين والجنود، فكيف هي الحال في أعقاب عملية ناجحة مِن مِثل «باب السلسلة»؟ ومن هنا، فإن أحد أكبر الشواغل على طاولة التقدير والقرار في تل أبيب اليوم، يتمثّل في احتمال مسارعة الفلسطينيين إلى تقليد العملية، خاصة أن وقوع الهجوم في منطقة الحرم القدسي سيُربَط مباشرة في الوعي الفلسطيني، وإن من غير قصد، بما تُسمّيه إسرائيل «المشاعر الدينية»، الأمر الذي يعني بالنتيجة مزيداً من الفلسطينيين السائرين على خُطى «الإرهاب»، وفق الرواية الإسرائيلية.
إزاء ذلك، بدت لافتةً، لجهة التوقيت في الحدّ الأدنى، الحملة الإعلامية التي قادها جهاز «الشاباك» للحديث عن «إنجاز كبير جدّاً» تَمثّل في اعتقال العشرات من فلسطينيّي الضفة الغربية، الذين قال إنهم يشكّلون تنظيماً فرعياً لحركة «حماس» في الضفة، وكانوا ينوون شنّ هجمات مسلّحة ضدّ الاحتلال، عبر تفجيرات «انتحارية» أو تفجير عبوات. هذا الإعلان الذي يحتاج إلى تتبّع لمعرفة تفاصيله بعيداً من توظيفه الآنيّ، ظهرت جليّة محاولة توظيفه في سياق معالجة واحدة من تداعيات عملية باب السلسلة، والمقصود بها أثرها في الوعي الجَمعي لدى المستوطنين أنفسهم، إذ إن الكشف عن إحباط خمسين هجوماً وفق ما ورد في بيان «الشاباك»، يستهدف القول إن واقعة الحرم القدسي صغيرة نسبياً، وتكاد لا تُذكر مقارنة بـ«الإنجاز الكبير» الذي حقّقته الجهات الأمنية الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين، والذي جرى تصديره إعلامياً بصورة مبالغ فيها، وكأن «الشاباك» أحبط المشروع النووي الإيراني. ولعلّ ذلك يشير إلى التلهّف الإسرائيلي لتسجيل «إنجاز» وقطف ثماره داخلياً، بما يشوّش على عملية الشهيد أبو شخيدم في الداخل الإسرائيلي نفسه، وبما لا يؤثر عليه أيّ كشف لاحق، يمكن أن يحدّ من فاعلية رواية «الإنجاز» نفسها.
على أن هذا التوظيف لا يحجب أهمية ما يكشفه بيان «الشاباك»، لناحية مثابرة المقاومة على تنظيم نفسها في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، على رغم العوائق العملية والميدانية واللوجستية والأمنية المنصوبة من قِبَل الاحتلال وشركائه في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي تعمل بحافزية أعلى من حافزية العدو نفسه، للحؤول دون تنامي المقاومة في الأراضي المحتلّة. ومن هنا، فإن الكشف الإسرائيلي يستبطن، أيضاً، رسالة إلى تلك الأجهزة لحثّها على تعزيز جهودها في مواجهة البنية التحتية للمقاومة في أماكن تستعصي على العدو السيطرة عليها بشكل كامل. ذلك أن «خلايا حماس»، وفقاً لرواية «الشاباك»، كانت تسعى إلى تنفيذ هجمات ستجعل من الصعب على السلطة السيطرة على مدن الضفة كافة، كما ستؤثّر سلباً على العلاقات بين تل أبيب ورام الله، وهو ما يُراد منه حضّ الأخيرة على تشديد قبضتها الأمنية. مطلبٌ سرعان ما بادرت السلطة إلى تلبيته، عبر إعلانها، نهاية الأسبوع الماضي، نيّتها تعزيز عملها في مخيّم اللاجئين في جنين، حيث تشتكي إسرائيل من أن القبضة الفلسطينية هناك لا تزال هزيلة، ما يتيح انتشار السلاح وتصنيعه محلّياً ووصوله لاحقاً بسهولة نسبية إلى مَن يريد تنفيذ عمليات وإن منفردة. ووفقاً للإعلام العبري، تنوي أجهزة السلطة اعتقال عدد كبير جدّاً من سكان المخيم، مِمَّن تصفهم تل أبيب بـ«المطلوبين»، في إجراء يُتوقَّع أن يؤدي إلى اشتباكات بين الشرطة الفلسطينية والمقاومين، من دون وجود تقدير واضح حول ما ستؤول إليه الأمور. لكن هل تنجح إجراءات العدو القمعية، إضافة إلى إجراءات شركائه في الأجهزة الفلسطينية، في إخماد الحافزية لدى الفلسطينيين؟ الواضح أن ثمّة شكوكاً لدى إسرائيل في القدرة على تحقيق هذا المطلب، وهو ما يحول دون بروز توقّعات إيجابية لديها، خاصة مع إدراكها أن الاحتلال نفسه إنّما يمثّل أحد أهمّ عوامل نموّ الحافزية المذكورة.
من جهة أخرى، وكما بات معتاداً في مثل هذه الحالات، شكّلت عملية باب السلسلة مادّة للمزايدات وتبادل الاتهامات وتسجيل المواقف، حتى داخل الائتلاف الحكومي نفسه، إذ دعا وزير الاتصالات، يوعاز هاندل، إلى إعادة نصْب البوابات الإلكترونية في البلدة القديمة في القدس، بحيث يخضع كلّ من يريد الوصول إلى أحيائها لتفتيش دقيق، علماً أن هذا المخطط سقط في أيّام حكومة بنيامين نتنياهو عام 2017، عندما كان رئيس الحكومة الحالي نفتالي بينت، وزيراً للأمن فيها، بعد أن تسبّب مقترح البوّابات بأزمة خارجية لإسرائيل، والأهمّ شبه انتفاضة داخلية في القدس والأراضي المحتلة عموماً، ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع تل أبيب عنه. ومن هنا، يبدو أن حديث هاندل، وغيره من المزايدين في الحكومة وخارجها، يأتي في إطار الاستعراض؛ بالنظر إلى صعوبة عودة إسرائيل إلى ارتكاب الخطأ نفسه الذي وقعت فيه قبل أربعة أعوام، والتسبّب بانتفاضة جديدة، هي معنيّة بأن تُبعد أيّاً من أسباب اندلاعها عنها في المرحلة الحالية.