كأنه لم يكن ينقص موظّفي «الأونروا» في غزة سوى أن يدقّ مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد آران، مسماراً جديداً في نعش أمانهم الوظيفي، باتّهامهم بالتحريض على الكراهية ومعاداة السامية، بل وبتقديم لائحة بأسماء عدد منهم، والمطالبة بطردهم نهائياً من العمل. «مِن قَبل الوحام مريضة»؛ بهذا المثل الشعبي يعلّق محمد إبراهيم (اسم مستعار) الذي يعمل معلّماً للمرحلة الإعدادية في مدارس الوكالة، على تصريحات آران، لافتاً إلى أن «الأونروا» شرعت منذ سنوات في ممارسة أعلى مستويات الإرهاب النفسي تجاه موظّفيها، وأعدمت هامش حرية الرأي والتعبير لديهم، بل وحرمتهم من المجاهرة بالانتماء السياسي إلى أيّ من الأحزاب الوطنية، وحتى التفاعل الإيجابي مع قضايا مجتمعهم. ويضيف إبراهيم، في حديثه إلى «الأخبار»: «يطبّق مدراء الأونروا العرب تعليمات مسؤوليهم بإخلاص غير مفهوم، يراقبون سلوكنا الثقافي والسياسي بأمانة، ويلوّحون دائماً بإمكانية التبليغ عنا عند كلّ تجاوز لحماية أنفسهم، ثمّ يجبرون الموظف على التوقيع على مجموعة تعهّدات، يتقيّد بموجبها بجملة بنود فضفاضة، يمكن تفسيرها من وجهة نظر المسؤولين وفق الموقف أو المخالفة التي يرونها تستحقّ العقوبة». يكمل مدرّس المواد الاجتماعية: «معنى كلامي، أنّنا نوقّع على عدم التحريض على العنف والكراهية، ومن الممكن أن تُدان بهذا البند وتُفصل من وظيفتك، فقط لأنك قدّمت موقفاً وطنياً تدعم فيه المقاومة أو تعبّر عن مناصرتك لقضية مثل الأسرى أو القدس». هذه الإجراءات انعكست خوفاً هائلاً يعيشه موظّفو الوكالة، بعد أن أصبحوا عرضة للطرد والفصل الوظيفي لمجرّد منشور أو مشاركة لمنشور على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى بسبب تعليقات تخالف هوى «الأونروا» من بعض أصدقائهم على منشوراتهم. دفع ذلك بالموظفين إلى إلغاء حساباتهم الرسمية، وإنشاء حسابات بأسماء مستعارة، يعرّفون بها أصدقاءهم وأقرباءهم من الدرجة الأولى، أمّا الخيار الآخر، فأن يُبقوا حساباتهم خاملة، بلا أيّ تفاعل مع الأحداث الوطنية أو المجتمعية. هذا في الفضاء الافتراضي، أمّا في الواقع، فإن الموظفين يحاذرون ممارسة أيّ نشاط حزبي أو وطني داخل المؤسسات الرسمية، بل ويحرصون على أن لا يكونوا جزءاً من مشكلة عائلية في مكان سكنهم، لأن أيّ شكوى ستُقدَّم لمدير متنفّذ في الوكالة قد تكون كفيلة بفصل الموظف، من دون التثبّت من تفاصيلها. وهنا، يروي عاصم أحمد، الذي يعمل نائب مدير مدرسة إعدادية تابعة لـ«الأونروا»، أن أحد الموظّفين العاملين معه أُوقف عن عمله بعد شكوى تقدّم بها أحد جيرانه إلى مدير المنطقة التعليمية، من دون أن تُشكّل للنظر بها لجنة تحقيق. ويتساءل أحمد عن السبب الذي يدفع الوكالة إلى ممارسة دور الحاكم والجلّاد تجاه موظفيها، وما إن كان لها الحق أصلاً في أن تحاسب موظّفاً على مشكلة عائلية حدثت في حيّه؟! يتابع نائب المدير الذي أمضى أكثر من 18 عاماً في وظيفته: «للأسف، تتحيّن الأونروا أيّ فرصة لعقاب الموظف ومحاسبته، وفي السنوات الأخيرة، تضاعفت الإجراءات العقابية وتدنّى هامش الحريات، وأصبحت وظيفة الوكالة التي كنّا نُحسد عليها في مجتمعنا بسبب راتبها الجيد، أسوأ الوظائف على الإطلاق».
أصبح الموظّفون عرضة للطرد والفصل الوظيفي لمجرّد منشور أو مشاركة لمنشور على صفحاتهم


غير أن كلّ ما سبق ليس إلّا جزءاً من الممارسات التي يتعرّض لها الموظفون؛ إذ في حال تَبيّن أنهم فاعلون في أيٍّ من الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة، تَفرض الوكالة عليهم الاستقالة الطوعية كي يستطيعوا الحصول على مدّخراتهم الوظيفية، وهو خيارٌ لا مفرّ من القبول به، بالنظر إلى أن البديل منه هو «الخروج من المولد بلا حمص»، مثلما يقول أبو أحمد، وهو معلّم لمادة التربية الإسلامية، وصلت وشاية إلى رئاسة «الأونروا» بنشاطه في أحد فصائل المقاومة. يقول أبو أحمد لـ«الأخبار: «لم يضعوا أمامي خياراً آخر، الاستقالة فقط، لكي تستفيد من مدّخراتك، أو الطرد من دون أيّ حقوق، ولديهم المسوّغ القانوني الذي بموجبه سأُحرم من كلّ حقوقي». يتابع الرجل الذي خدم 21 عاماً في الوكالة: «أدركنا جميعاً منذ استشهاد زميلنا عوض القيق الذي كان يعمل مدير مدرسة، وقضى في عملية اغتيال عام 2008، ورفضت رئاسة الوكالة صرف مدّخراته الوظيفية لعائلته، لأنه تَبيّن لها بعد استشهاده أنه قائد بارز في وحدة التصنيع العسكري في إحدى فصائل المقاومة، أدركنا منذ ذلك الحدث أن الوكالة تتّجه إلى قرارات أكثر صرامة تجاه القضايا الوطنية».
وبالعودة إلى الشكوى الإسرائيلية في الأمم المتحدة، والتي استندت إلى تقرير قدّمته «منظّمة مراقبة الأمم المتحدة» زعمت فيه أن بعض الموظفين انتهكوا السياسات العامة لـ«الأونروا»، لا سيما المتعلّقة بنشر الكراهية ومعاداة السامية، يوضح علي هويدي، وهو مدير «الهيئة 302 للدفاع عن حقوق اللاجئين»، أن التقارير التي تنشرها المنظّمة المذكورة تحتوي على مغالطات، وهي تسعى إلى اقتناص أيّ كلمة قد تتضمّن مخالفة لمبادئ «الأونروا»، وتستغلّها لصناعة رأي عام دولي منفّر حول الوكالة، وصولاً إلى تقليص عملها، ثمّ تقويضها لإنهاء قضية اللاجئين. ويضيف هويدي، في تصريحات صحافية، أنه «بعد متابعة قائمة أسماء الموظفين التي قدّمتها المنظمة وطالبت بإقالتهم، تَبيّن أن عشرة منهم هم فعلاً من العاملين في مؤسّسات الأونروا، وبقيّتهم ليست لهم علاقة بها، وهو الأمر الذي يثبت عدم مصداقية تلك المنظمة». وعلى رغم أن الوكالة أصدرت تقريراً ردّت فيه على تلك المزاعم، لافتةً إلى أن للمنظّمة المشار إليها «تاريخاً طويلاً من تعويم مزاعم عارية عن الصحة، وتُحرّكها أهداف سياسية»، إلا أن البيان ذاته استدرك على نحو أظهر أن الوكالة ستنحني للريح، إذ تعهّدت بأنها «لن تتسامح مع خطاب الكراهية وتأخذ كلّ ادّعاء على محمل الجدّ، وأنها فتحت تحقيقاً في صدقية المعلومات التي تضمّنها التقرير».