السيطرة على البحار والمحيطات والممرّات المائية، وتأمين «حرية الملاحة والتجارة وتدفّق السلع»، كان من بين العوامل الأساسية لتوسُّع الهيمنة الغربية وتطوّر الرأسمالية كنظام عالمي. وكما يَذكر المؤرّخ الأميركي، آلان ميخائيل، في كتابه «ظلّ الله»: منذ أن أحكم السلطان سليم الأوّل العثماني سيطرته على الواجهة المتوسطية لغرب آسيا، أي عملياً على طُرق التجارة البرية الدولية بين أوروبا، وبين وسط آسيا وشرقها، بدأت رحلة «استكشاف» طرق بحرية لها، أضحت رئيسة في ما بعد، وإلى الآن. النقل البحري، وفقاً للالي خليلي، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة «كوين ماري» في لندن، في كتابها المهمّ «عصب التجارة والحرب»، «لا ينعكس فقط في مرايا المياه البعيدة. هو ليس مجرّد وسيلة، بين وسائل أخرى، للتجارة، بل هو محوري لنسيج الرأسمالية العالمية ذاته. إن التجارة البحرية، والنقل اللوجستي، والنقل الهيدروكربوني، يُعدّ أوضحُ صورة لكيفية عمل الرأسمالية العالمية اليوم». التحكم الاستراتيجي بـ«عصب التجارة الدولية» عبر بناء الأساطيل البحرية العسكرية الضخمة وإنشاء شبكات القواعد البحرية المنتشرة عبر الكوكب، رسّخ هيمنة القوى الغربية على بحاره ومحيطاته وبرّه.
كانت البحار والمحيطات فضاء آمناً للسفن الإسرائيلية في الماضي (أ ف ب )

التغيّرات الكبرى والمتسارعة في موازين القوى الدولية في العقدَين الأخيرَين، والتي أفضت إلى تراجع مستمرّ في السيطرة الغربية واحتدام «تنافسها» مع القوى غير الغربية الصاعدة، وفي مقدّمتها روسيا والصين، حوّل البحار والمحيطات إلى ساحة من ساحات هذا التنافس. تداعياته، واستفادة قوى إقليمية منه، تمثّل في الواقع أصل المعضلة التي تواجهها إسرائيل راهناً. كانت البحار والمحيطات فضاء آمناً لسفنها في الماضي، بفضل التحكّم الغربي الآحادي بها، لكنّها لم تعد كذلك.

عصر ذهبي انقضى
لم تكتفِ الولايات المتحدة، القوّة المسيطرة على البحار منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى العقد الأوّل من القرن الحالي، بحماية سفن إسرائيل، بل هي أسهمت بشكل حاسم في التصدّي لأيّ خطوة معادية لها عبر البحار. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، يوردها الرئيس الأسبق لقسم المعلومات في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، عاموس جلبوع، في كتابه الصادر في بداية هذا العام، «إغارة في البحر الأحمر»، الذي يفصّل فيه كيفية نجاح البحرية الصهيونية، بفضل تعاونها الاستخباري والعمليّاتي مع الولايات المتحدة في كشف سفينة «كارين أ»، المرسلة من الحرس الثوري الإيراني إلى المقاومة الفلسطينية، والاستيلاء عليها في 2002. وقد أصبح من الثابت أن هذه العملية كانت من الأسباب الرئيسة التي حدت بعدد من الدول الغربية والعربية «المعتدلة» إلى سحب اعتراضها عن قيام آرييل شارون باغتيال الرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات. تلك الأيام كانت عصراً ذهبياً لإسرائيل، غير أنه انقضى. يقرّ يوناه جيريمي بوب، المختصّ في شؤون الأمن والإرهاب، بهذه الحقيقة المرّة في مقال في «جيروزاليم بوست» ذو عنوان لافت: «إيران متفوّقة في حرب الظلّ بينها وبين إسرائيل في البحار». يرى بوب أن القدرات العسكرية البحرية التي يمتلكها الكيان الصهيوني تمكّنه أساساً من الدفاع عن «مياهه الإقليمية»، وقد تستخدم في أيّ حرب مع «حماس» أو «حزب الله»، لكنها غير كافية لحماية النقل البحري في عرض البحار منه وإليه: «سفن النقل البحري الإسرائيلية لا تستطيع فعل شيء في مقابل مسيّرات إيران وألغامها البحرية أو صواريخها... لقد شنّت إيران عدّة هجمات ضدّ سفن إسرائيلية في السنتَين الماضيتَين، وليس لدى إسرائيل جواب على ذلك». هو يعتقد بأن ضرب سفن إيرانية لن يردع طهران عن المضي في توجّهاتها الحالية، ويوصي ببلورة عقيدة جديدة للبحرية الإسرائيلية وباعتماد ردود تصعيدية ضدّ إيران لدفعها إلى التراجع. بطبيعة الحال، فإن توصيات عامة من هذا النوع، لا تتضمّن أيّ جديد لمواجهة تحدٍّ لم يواجِه الكيان العبري مثله سابقاً.
أسهمت الولايات المتحدة بشكل حاسم في التصدّي لأيّ خطوة معادية لإسرائيل عبر البحار


حسرة من «خذلان الحلفاء»
إضافة إلى التحولات البنيوية في الوضع الدولي، وانعكاساتها براً وبحراً، فإن الأولويات الاستراتيجية التي طرأت على جدول أعمال الحليف الأميركي وقراره بالتركيز على تحدياته الداخلية، وعلى مواجهة الصين وروسيا، وتراجع أهمية الشرق الأوسط نتيجة لذلك، هو ما يقضّ مضاجع الإسرائيليين. لقد تشكَّل شبه إجماع بين النخب الأميركية حول هذه الأجندة، وهذا جوزف ناي، منظّر الريادة الأميركية في تسعينيات القرن الماضي والذي بلوَر مفاهيم كـ«القوة الخارقة» و«الخشنة» و«الناعمة»، يضمّ صوته، في مقال على موقع «بروجكت سنديكيت» بعنوان «استراتيجية القوة العظمى الأميركية الجديدة»، إلى الأصوات المؤيّدة لإعادة جدولة الأولويات المشار إليها سالفاً. تدفع هذه التطوّرات أليكس فيشمان في «يديعوت أحرونوت»، في مقال بعنوان «إسرائيل ستردّ»، إلى الجزم بأن تل أبيب «تُركت وحيدة في مواجهة إيران واستفزازاتها. حتى 3 أو 4 سنوات خلت، كان الأميركيون والأوروبيون يقاتلون بشراسة ضدّ الإرهاب في الإقليم. أما الآن، فقد أصبح من النادر أن يردّ الأميركيون على القصف المستمرّ وشبه اليومي لسفارتهم وقواعدهم في العراق. هم يغادرون أفغانستان، وعلى رغم الإنكار الرسمي، سيهمّون بالانسحاب من العراق وسوريا. المسألة مسألة وقت فقط. التعب الغربي ممّا يجري في الشرق الأوسط هو الذي خلق الفراغ الذي يسمح لإيران بالتغلغل، ولا يتصدّى لها أحد باستثناء إسرائيل من خلال عمليات ما بين الحروب... أين رجال الدولة الكبار الذين كان من المفترض أن يحافظوا على ميزان قوى راجح لمصلحة إسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني؟ في النهاية، تُركنا وحدنا مع الروس الذين يقفون جانباً على التلّ، وينتظرون الفرصة لجني ثمار الأخطاء التي يرتكبها الغرب في المنطقة». صنيعة الغرب، في عصر ما بعد الغرب، تبكي سوءَ حظّها، وهي تعلم أن مدنها ومراكزها الحيوية أضحت في مرمى ترسانة محور المقاومة المتعاظمة من صواريخ دقيقة ومسيّرات، وأن سفنها بصدد التحوّل إلى أهداف عائمة في بحار غير آمنة.