عندما تتلمّس إسرائيل وجود خطر حقيقي على السلطة الفلسطينية، تتجاوز كلّ ما يَصدر عنها من مواقف «سلبية»، وتنتقل إلى مدّ اليد لإنقاذ الأخيرة. هذه القاعدة ثابتة لدى الاحتلال، بغضّ النظر عن هوية رأس الهرم السياسي في تل أبيب: يسار أو وسط أو يمين، أو حتى - للمفارقة - أقصى اليمين المتطرّف. بحسب ما يتسرّب اليوم في الإعلام العبري في شأن تقديرات تل أبيب وواشنطن للوضع في رام الله، فإن مكانة السلطة ورئيسها، محمود عباس، تراجَعت إلى حدّ يكاد يقارب ما تُسمّيه إسرائيل «الخط الأحمر» الذي يُمنع تجاوزه سواءً في الضفة والقدس أو في غزة. وما يزيد من قلق الأميركيين والإسرائيليين أن هذا التراجع مقرون بأزمة اقتصادية حادّة، أفقدت «أبو مازن» أهمّ ما لديه من وسائل لاحتواء التداعيات، ما يؤدي بالنتيجة إلى مفاقمة حدّة الأزمة لدى السلطة، ويدفع نحو مزيد من الانحدار في مكانتها. على أن المفارقة أن هذا الوضع ناتج، في جزء منه، من قرارات شعبوية صدرت عن تل أبيب وواشنطن ضدّ السلطة نفسها، ضمن سباق من الجانبين لتظهير مزيد من اليمينية، ودفْع «أبو مازن» إلى التنازل الذي لا يقوى عليه، حتى هو نفسه. واحد من تلك القرارات، ما سُمّي قانون «تايلور فورس»، الذي أقرّه الكونغرس الأميركي قبل ثلاث سنوات بدفْع من إدارة دونالد ترامب، والذي يمنع الولايات المتحدة من تقديم مساعدات اقتصادية للسلطة إن كانت تُحوّل أموالاً للأسرى الفلسطينيين، بما يشمل أيضاً تقديم مساعدات مالية لعائلات مقاومين سقطوا خلال مواجهات مع الاحتلال. ضمن المنحى نفسه، صدرت عن حكومات نتنياهو قوانين وقرارت مشابهة، أريد منها المزايدة في اليمينية على الخصوم السياسيين في الداخل، وذلك عبر الضغط على السلطة، ومصادرة عائداتها المالية على الخلفية نفسها، علماً أن قرار مساعدة الأسر والعوائل، والذي اتّخذه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ستكون تبعات إلغائه سيّئة جدّاً للسلطة، وتبعاً لها، لإسرائيل نفسها. وعليه، فإن قرارات معاقبة السلطة وحصارها مالياً هي قرارات قد تفيد من اتّخذها تكتيكياً، خاصة على مستوى تماهيه مع قاعدته من اليمين، لكنها مضرّة استراتيجياً، ومن شأنها إلحاق الأذى بواحدة من أهمّ الركائز التي تستند إليها إسرائيل في حفظ أمنها، فضلاً عن أنه من الصعب العودة عنها لاحقاً.
من هنا، يُفهَم التحوّل في موقف رئيس الحكومة الحالية، نفتالي بينت، الذي هو أكثر تطرّفاً من سلفه الذي صدرت في عهده قرارات التضييق على رام الله. فبينت هو زعيم حزب يميني متطرّف، يكافح لإبقاء الضفة الغربية، من دون أيّ استثناء، تحت السيادة الإسرائيلية. وحتى الأمس القريب، كان ينادي بضرورة إسقاط السلطة ورئيسها. كما أنه شغل في الماضي منصب رئيس «مجلس يشع للمستوطنات». ومن المفترض أن تردّي وضع رام الله يمثّل هدفاً استراتيجياً بالنسبة إليه، عليه أن يرحّب به، كونه تَحقّق وهو على رأس الحكومة في تل أبيب. مع هذا، يدقّ بينت جرس الإنذار، ويستنفر أجهزته الأمنية من أجل هدف أسمى من كلّ ما كان ينادي به: إنقاذ السلطة ومنع انهيارها. ما الذي يدفع اليمين المتطرّف إلى مساعدة رام الله؟ الإجابة واضحة: مصلحة إسرائيل وحفظ أمنها. فانهيار السلطة تهديد يتعذّر على الاحتلال احتواء سلبياته، ما يدفع بطبيعة الحال، حتى اليمين المتطرّف، إلى التحرّك من أجل مساعدتها. وذلك دليل كافٍ وكاشف، يظهر مكانة رام الله ودورها في منظومة الأمن الإسرائيلية.
ترأّس بينت مناقشات إسرائيلية بَيْنية تهدف إلى مساعدة السلطة ومنع انهيارها


بحسب صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن اتصالات غير مباشرة، وصفتها بـ«المفاجئة»، حصلت في الأسابيع الأخيرة بين إسرائيل والولايات المتحدة والسلطة التي «بات وضعها الاقتصادي البائس يثير قلق الأميركيين والإسرائيليين؛ فعائداتها من الضرائب ومن المساعدات الخارجية آخذة في التراجع، وعجزها المالي يتزايد بسرعة، بل إن البنوك الفلسطينية نفسها باتت تخشى إقراضها المزيد من الأموال». وعلى هذه الخلفية، ترأّس بينت مناقشات إسرائيلية بَيْنية، تهدف إلى مساعدة السلطة ومنع انهيارها، عبر الدفْع بإجراءات سريعة لإنقاذها، من بينها تحريك مشاريع اقتصادية ومشاريع بنية تحتية في الضفة الغربية - طُلب من المسؤولين الأمنيين تحديدها -، من شأنها نسبياً إعادة التوازن المالي والاقتصادي، وتحسين القدرة على تشغيل الفلسطينيين. ووفقاً لما نقلته «هآرتس» عن جهات مطّلعة على المناقشات، يأتي كلّ ذلك نتيجة ما تصفه إسرائيل بـ«الإنذار الأحمر»: انخفاض شعبية السلطة. هذا الواقع، الذي يدركه عباس جيداً، كان بإمكانه أن يستغلّه لفرض إرادته وإن نسبياً على الاحتلال، واسترجاع جزء من حقوق فلسطينية لا يمكن استردادها عبر التوسّل، لكن حتى «أضعف الإيمان» يرفض عباس ممارسته أيضاً.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا