لا شكّ في أن جولة المواجهة الجديدة التي شهدتها فلسطين المحتلة، والتي عبّرت عنها انتفاضة الحجارة والصواريخ، ارتبطت بتسارع عملية التطهير العرقي الصهيوني في القدس وحيّ الشيخ جراح بشكل خاص، وفي مناطق مختلفة من الوطن المحتلّ بشكل عام. الشعب الفلسطيني، قبل أيّ طرف آخر، مدرك خطورة ما يتعرّض له في حاضره ومستقبله، غير أن قرار التصدّي المباشر لتلك العملية وتوقيته، عبر الخروج إلى التظاهر والاحتجاج في شوارع أراضي 1948 وساحات مدنها وبلداتها، والاستخدام الهجومي لسلاح الصواريخ من قِبَل فصائل المقاومة في غزة، وثيقا الصلة بتقدير جماهير الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة لحقيقة موازين القوى المتحوّلة لغير مصلحة العدو، وإمكان المبادرة لتصعيد النضال ضدّه. أصحاب النظرة المتعالية على الجماهير، والذين يعتقدون أن الأخيرة عاجزة عن التقدير الصحيح لموازين القوى، وأن الانفعال والعاطفية يتحكّمان في «ردود أفعالها»، عليهم أن يراجعوا تاريخ الثورات والانتفاضات الشعبية ضدّ الاحتلالات الأجنبية أو الأنظمة الفاسدة والمستبدّة، والتي بدأت عفوية واستمرّت حتى النصر. الجماهير الخاضعة للاحتلال أو لسطوة نظام معادٍ لها، هي أوّل مَن يلتقط إشارات الضعف البادية عليه، وانكسار هيبته الناجم عنها، وتتحرّك بناءً على تلك الإشارات. الهَبّة الشعبية في أراضي 1948، غير المسبوقة منذ النكبة، ناجمة عن اقتناع بات سائداً بأن العدو أضعف من السابق، وبأن ما كان خطّاً أحمر إسرائيلياً، تترتّب على تجاوزه تداعيات مروّعة من دون تحقيق مكاسب فعلية، لم يعد كذلك. سيادة الاقتناع نفسه بين تنظيمات المقاومة في غزة تُفسّر اللجوء الهجومي إلى سلاح الصواريخ أيضاً. يعني هذا أن الصراع في فلسطين يتّجه نحو الاحتدام بفعل هذه الاقتناع، وسعي المحتلّين الصهاينة، من جهتهم، إلى استعادة الهيبة المفقودة ومحاولة «كيّ الوعي» مجدّداً.

انكسار الهيبة
لا يمكن فصل ما يقع في فلسطين اليوم عن المسار العام للصراع في المنطقة، وتحديداً عن سلسلة الهزائم التي مُني بها الكيان الصهيوني منذ انسحابه المذلّ من القسم الأعظم من جنوب لبنان في أيار 2000. مَثّل هذا الانسحاب منعطفاً حاسماً في مجرى الصراع، يرفض المهزومون من العرب الإقرار به، على عكس العديد من الإسرائيليين. لم يخطئ إيلات بارام عندما كتب في صحيفة «كول هائير» في 2 حزيران 2000، أنه «منذ 33 عاماً، شاهد كلّ طفل في إسرائيل صورة أحذية الجنود المصريين المقلوبة في الصحراء بعد حرب 1967. أضحت هذه الصورة رمزاً للمهانة العربية. لقد استولى حزب الله اليوم على أجهزة الكومبيوتر التي تركها الجنود الإسرائيليون في مرجعيون. في عصر التكنولوجيا المتطوّرة، هذه هي الأحذية المقلوبة التي سيتذكّرها كلّ طفل في بيروت، رام الله أو دمشق». تلت الانسحابَ المذلّ هزائمُ متتالية للجيش الصهيوني، حفرت عميقاً في الوجدان العربي عامة، والفلسطيني خاصةً، من 2006 إلى 2014، مروراً بـ2008 و2012. لم يفلح قيام الجيش الصهيوني باستعراض تفوّقه على مستوى القوة النارية، وارتكابه المجازر الواسعة النطاق ضدّ المدنيين خلال الحروب المشار إليها، في طمس الأداء البائس لجنوده في المعارك الميدانية المباشرة التي وقعت في 2006، والتي أدّت إلى عزوفه عن القيام بعمليات برّية في الحروب التي تلت، والاكتفاء بالقصف المدمّر والعشوائي. الجيش الذي تخصّص في ملاحقة وقتل أو اعتقال الأطفال والشبّان خلال الانتفاضتَين الأولى والثانية، وفي القتل الواسع النطاق عن بعد للمناطق السكنية المكتظّة، بدا عاجزاً عن مواجهة المقاومين والالتحام معهم، بل وتقهقر في كلّ مرّة وقَع فيها مثل هذا الالتحام في جنوب لبنان وفي غزة.
لا يمكن أن يتعامى التقدير الصحيح لموازين القوى عن أهمية العوامل المعنوية، إضافة إلى القدرات المادّية لدى أفرقاء أيّ نزاع. الحساب التقليدي لموازين القوى، والذي يستند إلى حساب القدرات والإمكانيات العسكرية والتحالفات السياسية، كان يرجّح انتصار الاستعمار على حركات التحرّر الوطني في غالبية النزاعات التي اندلعت بينهما طوال القرن العشرين، لكن مآلاتها دحضت هذه المقاربة، وأكدت أهمية العوامل المعنوية، كالاستعداد للقتال وبذل التضحيات الكبرى والعناد والتصميم على الانتصار، إلى جانب اعتماد استراتيجية مقاومة شعبية ملائمة ونسج التحالفات الضرورية، في توفير شروط الانتصار. هذه أبرز دروس فيتنام والجزائر، مروراً بجميع معارك التحرّر الوطني الكبرى، وصولاً إلى لبنان. لقد أظهرت انتفاضة السكاكين، التي بدأت أواخر 2015 واستمرّت حتى 2018، تجرّؤاً مذهلاً من المدنيين الفلسطينيين، رجالاً ونساءً، على الجنود والمستوطنين الصهاينة المسلّحين، أدى بمُنظّري الأيديولوجيا المهزومة إلى اعتباره ضرباً من الانتحار بسبب «اليأس». لم يلفتهم تبنّي عائلات الشهداء الفلسطينيين الكامل لأفعال أبنائهم، حتى ولو أدى في الكثير من الحالات إلى نسف منازلهم من قِبَل جيش الاحتلال، ولا الجنازات الجماهيرية الهائلة التي نُظّمت لأجلهم، والتي حدَت بالعدو إلى اختطاف جثامينهم في العديد من المرّات، ومحاولة التفاوض مع عائلاتهم لمنع مثل هذه الجنازات. منظّرو الهزيمة لا يرون سوى ما يطفو على سطح الواقع الاجتماعي والسياسي، ولا يكلّفون أنفسهم عناء فهم الديناميات التي تعتمل في قعره. لم يلحظوا أن المناخ الشعبي في فلسطين كان ثورياً بامتياز، ومهيّئاً للانفجار متى سنحت الظروف بذلك.

انتفاضة في سياقات ملائمة
لم تكن الروح النضالية لدى الشعب الفلسطيني أضعف خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، إلا أن المتغيّرات الدولية والإقليمية الخارجة عن إرادته أتت لغير مصلحته. لا يمكن فصل مآلاتهما وعدم القدرة على ترجمتهما إلى مكاسب ميدانية أو سياسية مهمّة - باستثناء الانسحاب الذي فُرض على قوات الاحتلال ومستوطنيه من غزة في 2005 - عن التحوّلات الدولية والإقليمية الحاسمة التي حصلت خلالهما ومفاعيلها البالغة السلبية على النضال الفلسطيني. ففي فترة الانتفاضة الأولى، انقسم النظام العربي بعد دخول العراق إلى الكويت، وبدء حرب دولية - عربية عليه نتيجة لذلك، مهّدت، مع انهيار الاتحاد السوفياتي الذي تلاها، لمشروع فرض هيمنة أميركية أحادية على الإقليم والعالم. اختلّت موازين القوى لغير مصلحة الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم أكثر عزلة من أيّ حقبة سابقة. الأمر نفسه انطبق على الانتفاضة الثانية التي تبع اندلاعها شروعُ الولايات المتحدة في الحرب على «الإرهاب»، بعد عمليات 11 أيلول 2001، وهي الذريعة التي اعتُمدت لغزو العراق واحتلاله والسعي إلى إعادة «صياغة الشرق الأوسط» طبقاً للرؤى الصهيونية والأميركية. مُنح رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك، آرييل شارون، ضوءاً أخضر ليُسعّر حربه على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، والتي اندرج في إطارها اغتيال قائده التاريخي، الشهيد ياسر عرفات. لكن صمود أطراف محور المقاومة في سوريا وإيران ولبنان في مواجهة الحلقات التالية من الهجوم الأميركي - الإسرائيلي، أفشل مشروع «إعادة الصياغة»، وأمّن المقومات اللازمة لتعزيز قوة وقدرات قوى المقاومة في فلسطين، خاصة في غزة. الشعب الفلسطيني يعي، اليوم، أن محوراً إقليمياً يضمّ قوى نظامية وشعبية، تمتلك قدرات عسكرية وصاروخية تنمو باطّراد، و»تحرم قادة الصهاينة من النوم»، وفقاً لتعبير توماس فريدمان في رسالته التي وَجّهها إلى جو بايدن، يقف في صفه. هذا معطى لا سابق له في العقود الماضية. هو مدرك أيضاً تراجع الهيمنة الأميركية والغربية، والتعديلات التي طرأت على جدول أعمال صنّاع قرارها، والذين أضحت أولوياتهم مرتبطة بالتصدّي للصين وروسيا، وليس الانغماس اليومي في صراعات المنطقة خدمة لإسرائيل أولاً. لا تغيب هذه الوقائع المستجدّة، ولكن العنيدة، المحلية والإقليمية والدولية، عن بال الشعب الفلسطيني وتنظيماته المقاوِمة، عندما يبادرون إلى الصدام مع الصهاينة، بيقين بأن موازين القوى الإجمالية تتغيّر لمصلحتهم هذه المرّة.