القاهرة | بأطروحات مجتزأة وأحكام غير تاريخية ولا علمية، بل مسيّسة بامتياز، أدلى الكاتب المصري بدلوه في ما يخصّ القدس على صفحته الفيسبوكية التي اتخذها منبراً منذ أن أزيح عن المشهد الإعلامي في عام 2017. الاستعمار والاحتلال والتطهير العرقي في فلسطين... كل هذا لم يره صاحب «عزازيل» الذي عينه على «نوبل» في الفترة الأخيرة كما يقول المنتقدون، بل كلام ورطان عن أنّ «اليهود يريدون هدم المسجد الأقصى للبحث عن هيكل سليمان». ورمى تساؤلاً في وجهنا: «ماذا يحدث لو خصّص المسلمون لليهود 200 متر مربع من باحة المسجد الأقصى لبناء معبد يهودي يُسمى هيكل سليمان أو المعبد الكبير أو أيّ اسم آخر؟!»
«جمل المحامل» (1973) للتشكيلي الفلسطيني سليمان منصور

تردّدت، قليلاً، قبل أن أقترف محاولة تفنيد تهافت منهج الكاتب المصري يوسف زيدان في ما كتبه قبل أيام، متصلاً بجولة الصراع الحالية على أرض فلسطين، بخاصة أنّ الطرف الآخر من الصخب كان عباس شومان، وكيل الأزهر السابق. كتب صاحب «عزازيل» على صفحته الفيسوبكية تعليقاً على ما يجري في القدس: «القدس مدينة كل الأديان ولا يصحّ أن تكون عاصمة لفريق واحد»، فردّ شومان عليه قائلاً: «إن من ينكر إسلامية مدينة القدس خائن». لكني تنبهت إلى مفارقة أن «الفيلسوف» و«الشيخ» يتقاذفان الاتهامات عبر الفيسبوك، وزاد، زيدان، فكتب: «إن مفهوم الجهاد في الدين كان دوماً أكبر (مجاهدة شهوات النفس) وأصغر (هو المجالدة القتالية). وهذان نوعان اثنان فقط، ولم يرد أن له نوعاً ثالثاً فيسبوكياً أو تويترياً أو انستغرامياً... فهذا ما أنزل الله به من سلطان».
يستند زيدان إلى خليط فجّ من الأغاليط المنطقية المشهورة، فهو بعد ثلاثة أيام من بداية جولة القتال الحالية، استلّ فيسبوكه وأمطرنا بجديده «العتيق»؛ وهو يسخر من الأداة التي يرتكز إليها في حجاجه المتهافت، والتي استخدمها الشيخ بدوره، ثم استطال وقدّم الحل الذي غاب عن الجميع: «ماذا يحدث لو خصّص المسلمون لليهود 200 متر مربع من باحة المسجد الأقصى لبناء معبد يهودي يُسمى هيكل سليمان أو المعبد الكبير أو أي اسم آخر؟!». ثم صحّح «الوهم المستقر بيننا في البلاد العربية» القائل بأنّ «اليهود يريدون هدم المسجد الأقصى للبحث عن هيكل سليمان»، وكشف لنا أنّ «الصهاينة يبحثون عن هيكل سليمان مثلما نبحث نحن عن الآثار الفرعونية، لا أكثر».
هذه افتراضاته إذاً: ما يريده الصهاينة مجرد بحث أثري عن الهيكل، فإن لم يجدوه، فليبنوا في باحة الأقصى هيكلاً جديداً. ولأنّ زيدان، ادّعى؛ في نهاية عام 2015، أنّ المسجد الأقصى المذكور في القرآن ليس في فلسطين وإنما في الحجاز، فالنتيجة المنطقية أنّ الحق في القدس هو فقط لليهود.
أثناء ترددي في اقتراف محاولة تفنيد تهافت منهج يوسف زيدان، كنت أراجع بعض ما كتبه مريد البرغوثي في كتابه «رأيت رام الله»، فحسمت كلماته هذه ترددي: «لم أكن ذات يوم مغرماً بالجدال النظري حول من له الحق في فلسطين. فنحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق! لقد خسرناها بالإكراه وبالقوة»، ذلك لأنها تكشف تهافت زيدان بجلاء، فهو يتقافز عبر بضع كلمات ليوهم من يقرأه أنه يقدم سرداً تاريخياً، ليستنتج أنّ هناك حقين مشروعين، لكنه من جهة أخرى ينزع عن المسلمين حقهم، فلا يبقى سوى حق واحد لليهود.
ما يريده يوسف زيدان، في الواقع، ليس أقلّ من إعلان استسلام الفلسطيني و«عَقلنته»


المغرمون بالجدل النظري سيجدون في كلمات زيدان الأخيرة تهافتاً وصراخاً. فهناك، أولاً، اجتراء على البحث التاريخي لأنّ تاريخ العبرانيين في فلسطين ما زال محل بحث. إنه على أقل تقدير موضع شك، وأبحاث كمال الصليبي (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، مثلاً، وغيره من الباحثين العرب، تقدم أطروحات تناقض تماماً استلالات زيدان المجتزأة، وجهود الباحثين الأثريين اليهود، طوال ثلاثة وسبعين عاماً، لم تقدم أدلة كافية، مقنعة، على وجود «دولة» يهودية تطابق السرد التوراتي. وهناك، ثانياً، أحكام غير تاريخية، وغير علمية، ومسيّسة بامتياز: ففي خضم تأييده للرئيس عبد الفتاح السيسي، خرج بمقولة هي أن المسجد الأقصى ليس في القدس، ثم وصف صلاح الدين الأيوبي بأنه «من أحقر الشخصيات في التاريخ». وترافق هذا مع التأييد «الأعمى، المجاني» الذي أبداه السيسي لخطة ترامب «صفقة القرن»، وأفضت إلى اعتراف الولايات المتحدة بالقدس الموحّدة عاصمة لـ«إسرائيل»، ونقل سفارتها إليها. وقد قوبلت «جهود» زيدان بالتهليل المناسب من قبل أفيغدور ليبرمان في تغريدة على فيسبوك في أيار (مايو) 2017، بقوله: «سعيد للغاية بتصريحات المؤرخين المصريين التي تنزع القدسية عن أكبر إرهابي في التاريخ الإسلامي صلاح الدين، وعن أسطورة المسجد الأقصى المصطنعة... هذه التصريحات بداية لعودة التاريخ إلى أصوله... إنها تدفع في اتجاه إيجابي بكون القدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، هذه بداية عودة التاريخ إلى أصوله وردّ الحق إلى أصحابه، وتؤكد أن أورشليم القدس هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل العظمى». وفي ما يشبه النشوة، عقّب زيدان على ليبرمان، عبر الفيسبوك أيضاً، قائلاً: «هذا صيدٌ آخر في الماء العكر». هكذا تم تمرير بأنّ المسجد الأقصى «أسطورة مصطنعة» في حين أنّ «الهيكل» حقّ مقرر. لذلك ليس غريباً أن يكتب زيدان بعد ثلاثة أيام على تفجّر جولة الصراع الحالية، التي تستند إلى واقع أن المسجد ظاهر جلي، وأن الهيكل في قبضة الغيب، مفتتحاً كلامه بهذه النبرة الاستعلائية النرجسية المريضة: «ردّاً على كثيرين يسألونني الرأي، ويتساءلون عن رؤيتي للأحوال الجارية في الجوار»، ثم رطان عن «حقوق الإنسان والمواثيق الدولية المتحضِّرة». لا حديث عن الاحتلال، ولا التفرقة العنصرية، ولا منع الناس من مساجدهم وطردهم من بيوتهم، فهو لم ير في «الجوار» أياً من هذا!
وتتوالى رؤاه، بتواتر شبه يومي: «أنا أدعو إلى حل عملي للقضية من خلال تدويل مدينة القدس، لتكون تحت السيادة الدولية من خلال الأمم المتحدة، أو من خلال أطراف الصراع نفسه، على أن يتم الحفاظ على وحدة المدينة، لإنهاء هذا الصراع، ولكي يسود السلام، وأسعى للحفاظ على المدينة التاريخية وكذلك أرواح الناس من الطرفين»، وإلا سـ«تظل المآسي الإبراهيمية وحروبُ الرب المزعومة، مستمرة إلى ما لا نهاية». وهنا بوضوح تام، يتبيّن تهافت منهج يوسف زيدان، فالقدس، مع كل «رمزيتها» جزء من الصراع، لكن جوهره هو في المشروع العنصري الصهيوني، واستمرار إنكار حقوق الشعب الفلسطيني. وذروة تهافت يوسف زيدان؛ الذي نشر قبل يوم من تدوينته هذه خبر طرح الطبعة الـ43 من روايته «عزازيل»، الصادرة عام 2009، تتأتى من تعاميه عن المفارقة المنطقية المتمثلة في أنه يستند في مطالبته ببناء هيكل جديد في باحة الأقصى إلى تصوره عن «حق تاريخي» للعبرانيين «ظهر لوهلةٍ قبل ألفي سنة» كما كتب في التدوينة نفسها، بينما المقدسيون يدافعون عن واقع معاش، ويطالبون بحق اغتُصب منهم قبل نحو نصف قرن فقط.
ما يريده يوسف زيدان، في الواقع، ليس أقل من إعلان استسلام الفلسطيني للعبراني الذي يريد بناء ما هُدم قبل ألفي عام، ويزيد ويصف طلبه هذا بالحلّ العاقل!
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، كشف زيدان، في برنامج تلفزيوني أنه يناقش السيسي؛ بصورة متواترة، في قضايا عدة، سياسية وتاريخية ودينية، لكن يبدو أن هذا التواتر خفت منذ نهاية 2017. ولهذا كفّ زيدان عن الظهور على الفضائيات؛ التي كان ضيفاً مستداماً عليها. اليوم لم يعد له سوى الفيسبوك منفذاً لتقديم حلوله الألمعية للمشكلة «التاريخية».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا