بين التهديد المُتعاظم على الجبهة الشمالية التي تبدأ من لبنان لتمرّ بسوريا فالعراق، وصولاً إلى إيران، وبين التهديد المستقبلي المحتمَل في الضفة الغربية على خلفية إحباط السلطة الفلسطينية من الشريك الإسرائيلي والأميركيين، تُركّز المؤسسة الأمنية في إسرائيل اهتمامها شمالاً، على اعتبار أن رام الله لن تتخلّى، في نهاية المطاف، عن استراتيجية «المَسْكنة» وتلقّي فتات الحقوق، وأن احتمال أن تتوجّه أو أن تسمح للفلسطينيين بخيار مقاومة الاحتلال عسكرياً وأمنياً يكاد يكون منعدماً. ولذا، تعتبر المؤسّستان السياسية والأمنية في تل أبيب أن الرئيس محمود عباس، على رغم كلّ ما حصل أخيراً، يظلّ «مأمون الجانب».ووفقاً لتسريبات لصحيفة «هآرتس» تبدو مقصودة وهادفة، فإن مداولات جرت بعيداً عن الإعلام بين مسؤولين أمنيين وسياسيين إسرائيليين، خَلُصت إلى أن «عباس قرّر تجنّب المواجهة مع إسرائيل، وهو يُعدّ الزعيم الفلسطيني المثالي»، وعلى خلفية «مثاليّته» هذه «يجب السعي للوصول إلى تفاهمات معه». مع ذلك، تعرب المؤسسة الأمنية عن قلقها من الآتي، ومن تصعيد وفوضى في الضفة الغربية على خلفية تردّي الأوضاع الاقتصادية في مناطق السلطة. وبحسب التسريبات، تتراوح أسباب ذلك التردّي ما بين تراجع الناتج المحلّي للاقتصاد الفلسطيني بما يصل إلى 13.5 بالمئة، وتجاوز معدّل البطالة نسبة 35 بالمئة، وفقد حوالى نصف مليون فلسطيني (في الضفة الغربية وقطاع غزة) وظائفهم أو دخولهم دوّامة الديون بسبب أزمة «كورونا»، وتراجع الأجور (يبلغ متوسط أجر العامل 35 دولاراً في اليوم، وضعفه لدى العاملين في المستوطنات وإسرائيل) كون معظمها مرتبطاً بقطاع السياحة والفنادق والمطاعم، فيما باتت إسرائيل تتشدّد في إعطاء تراخيص عمل للفلسطينيين، كانت قد وصلت قبل الأزمة إلى أكثر من 140 ألف تصريح في اليوم. يضاف إلى ما تقدّم أن ثلث الشركات الخاصة في الضفة الغربية أُغلقت أو تكاد تُغلق بسبب الصعوبات الاقتصادية، وأن أكثر من 40 بالمئة من الشيكات التي جرى التداول بها كانت بلا رصيد.
هذه المعطيات من شأنها، بحسب المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، تقريب المجتمع الفلسطيني من نقطة الغليان، بعدما أدّت بالفعل إلى زيادة في العنف المنزلي، واستخدام الأسلحة في الخلافات، وتسرّب الأطفال من المدارس. لكن هل يتسبّب ذلك في تغيير موقف السلطة؟ مصادر أمنية إسرائيلية تؤكد أن السلطة، كما إسرائيل، غير معنيّتَين بتصعيد أمني في الضفة، إلا أن الخشية تنبع من تداعيات التردّي الاقتصادي، مصحوباً بيأس فلسطيني مبنيّ على فقدان الأمل بإمكان التوصل إلى حلول وتسويات سياسية. ووفقاً لمصدر أمني إسرائيلي، فـ»المسألة، كما يتّضح من مواقف المسؤولين الفلسطينيين، لا تتعلّق بانتفاضة جديدة وببنادق فلسطينية تهاجم إسرائيل، إذ يدرك الجميع أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً، وأبو مازن غير مهتمّ بذلك، وإنما في كون الفلسطينيين يطرحون دائماً احتمال أنهم سيقرّرون حلّ السلطة وإعادتها إلى إسرائيل».
الأوضاع الاقتصاديّة من شأنها تقريب المجتمع الفلسطيني من نقطة الغليان


بناءً على ما تقدّم، وبالنظر إلى أن تقرير «هآرتس» مستند إلى مصادر من داخل الجيش الإسرائيلي، فمن الممكن القول إنه يستبطن رسائل في أكثر من اتّجاه، على رأسها تحذير القيادة السياسية في إسرائيل من أن ثبات عباس على الامتناع عن تبنّي خيار «العنف» ضدّ إسرائيل، لا يعني بالضرورة أن النتيجة ستكون طيّبة. إذ يقفز، هنا، إلى الواجهة، سيناريو حلّ السلطة وتسليم مؤسّساتها إلى إسرائيل، وهو ما ستترتّب عليه أعباء سياسية واقتصادية وحقوقية وعسكرية وأمنية. ينبّه التقرير، كذلك، إلى أن معظم العوامل التي قد توصل إلى إسقاط السلطة هي نتاج مواقف وإجراءات إسرائيلية مبنيّة في معظمها على خلفية الخصومات الداخلية بين الأطراف الإسرائيليين، والركض خلف الصوت اليميني عبر تدابير متطرّفة ضدّ الفلسطينيين لا طائل منها. وعليه، يبيّن الجيش أن حرف الاهتمام عن الجبهة الشمالية التي تستهلك معظم موارد المؤسسة العسكرية، وتأتي الساحة الفلسطينية في مقام متدنّ في سلّم أولويات رئاسة الأركان قياساً إليها، سيؤدّي إلى خسارة موارد في أزمات يمكن للسياسيين حلّها عبر وقف المزايدات في ما بينهم.
الواضح، إذاً، أن الهدف من تلك التسريبات حثّ القيادة السياسية على اتخاذ إجراءات لتخفيف الضائقة الاقتصادية عن رام الله، كي لا تضطرّ تل أبيب إلى تحمّل المسؤولية المباشرة عن الفلسطينيين، كما كان عليه الوضع قبل «اتفاق أوسلو». والتقرير، بصورة عامة، مقدّمة ضرورية لتلك الإجراءات، كونه يساعد القيادة السياسية في إقناع الرأي العام الإسرائيلي الذي بات أكثر يمينية، ويستصعب اللجوء إلى مساعدة السلطة اقتصادياً. على أن اللافت في التسريبات هو استمرار اطمئنان المؤسسة الأمنية في إسرائيل إلى أن السلطة لن تتّبع ولن تسمح باتّباع استراتيجية مغايرة لاستراتيجية استجداء الاحتلال.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا