أحسن الإعلام الغربي صناعة صورة دولة «السلام والانفتاح». لكن السؤال الأكثر إلحاحاً، وإن كان مكروراً، يتأتّى عن ضرورة فهم ما فعلته الإمارات طوال سنواتٍ خلت، حتى وصلت، أمس، إلى «النهاية السعيدة»، على طريقة الأفلام الفاقدة أيّ إبداع وخيال. اتفاق تطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل، والمُراد تسويقه (وتعميمه) على أنه آخر إنتاجات الدبلوماسية الحديثة، كان دونه شغلٌ كثير تجسَّد، في النهاية، على صورة «انتصار» لإدارة ترامب.لكن قبل ترامب وقبل العدوان على اليمن وقبل الاتفاق النووي الإيراني، وطبعاً قبل الحديث عن «الضمّ» (حذّر يوسف العتيبة من أنه «سيوقظ عنف المتطرّفين... وتصل أمواجه إلى المنطقة»)، اشتغلت جماعات الضغط الإماراتيّة (تقودها سفارة أبو ظبي في واشنطن)، صاحبة «القوة الهائلة» والتمويل السخيّ، بنشاط لتسويق رؤاها في السياسة، فضلاً عن مساعيها للتأثير على سياسة واشنطن الخارجيّة. عبر أدواتها و»دبلوماسييها»، ثبّتت الدولة المأزومة راهناً بفعل ما خلّفته تبعات وباء «كورونا»، معطوفةً على تدهور أسعار النفط، دورها كـ»حليفة (لواشنطن) لا يمكن الاستغناء عنه»، مرسّخةً علاقات تعود إلى عقودٍ مضت.
باكراً جداً سطع النجم الإماراتي في العاصمة الأميركية، حيث تمكّنت أبو ظبي من شراء نفوذٍ مدفوع الثمن. وسائل الإعلام الأميركية، التي ما فتئت تغازل الانفتاح الاستثنائي، و»الإرادة» المنقطعة النظير التي دفعت بلداً صغيراً إلى عنان السماء سالكاً رحلته إلى «الكوكب الأحمر»، حملت «الأمانة»، وكانت خيرَ حاملٍ. بدا لافتاً بين نهاية عام 2014 وبداية العام التالي، 2015، ما كُتب عن «شريك أميركا المفضَّل» في الحرب على الإرهاب. العلاقة بين البلدين، يصفها قائد القيادة الأميركية الوسطى، في حينه، الجنرال أنتوني زيني، بأنها «الأقوى من بين العلاقات التي تربط الولايات المتحدة مع باقي دول العالم العربي...». على المنوال نفسه، تضع «الإذاعة الوطنية الأميركية العامة» أبوظبي في مكانة «الشريك الذي لا غنى عنه بالنسبة إلى واشنطن»، فيما تعرض مقالة نُشرت في موقع «بلومبرغ» في كانون الثاني/ يناير 2015، آراء العتيبة، الذي يخلص إلى تكرار متلازمة «الاعتدال والانفتاح والتسامح».
تمكّنت أبو ظبي من شراء نفوذٍ مدفوع الثمن في واشنطن


متلازمةٌ، يقابلها - بالضرورة - موقف إماراتيّ متشدِّد إزاء تعريف «الإرهابي». موقفٌ جذبَ كثيرَ انتباهٍ في واشنطن المهتمّة «بالمعايير الصارمة جدّاً في تحديد التطرُّف»، على حدّ تعبير وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد. تطول «قائمة» الإمارات إلى درجة أنها تكاد تنافس تلك الخاصّة بالولايات المتحدة؛ وإلى «القاعدة» وداعش» و»الإخوان المسلمين»، اعترف العتيبة، أخيراً، بأن بلاده عارضت - على الدوام - أيّ نوعٍ من المقاومة: «لقد عرَّفنا حزب الله بأنه منظمة إرهابية، واستنكرنا تحريض حماس وأدنّا الاستفزازات الإسرائيلية»، وفق ما ورد في مقالته الشهيرة لـ»يديعوت أحرونوت» في حزيران/ يونيو الماضي. في الإطار عينه، نصح «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، ضمن تقرير نشره بداية عام 2015، الولايات المتحدة في إطار تعزيز شراكتها مع الإمارات، بأن «تحاول إيجاد طريقة لتشجيع هذا المنحى على نحو أكثر فعالية»، لأن ذلك «يشكِّل العنصر المكمّل المناسب لتوسيع نطاق العمل المتعلّق بمكافحة الإرهاب مع شريك ملتزم...».
النفوذ الإماراتي، وحسنُ السيرة، لم يكونا خاصّين بالإدارة السابقة كما هو واضح؛ إذ احتضن ترامب أبو ظبي، حتى قبل أن تطأ قدماه البيت الأبيض. وبعيد تتصيبه في 2017، استقبل ولي عهدها، محمد بن زايد، «الشخص المميّز الذي يحبّ بلده ويحب الولايات المتحدة». غاية الإمارات ومُنتهاها كان إرضاء الحليف الأميركي، كما تُبيّن كل السياقات المؤدّيه إلى «الإعلان الكبير». شهدت السنوات القليلة الماضية، ازدياداً على نحو غير مسبوق في التعاون الاقتصادي والأمني بين الجانبين الإسرائيلي والإماراتي، وذلك، كما تقولان، في ظلّ «التهديد المشترك» الذي تمثّله إيران. في الحقيقة، تلفت «فورين بوليسي»، في سياق تقرير لها أعقب مقالة العتيبة، إلى أن «العلاقة المتنامية بين الإمارات وإسرائيل هي نتاج كلّ ما هو غير طبيعي». فمثل نظيراتها في الخليج، «الإمارات دولة بوليسية ملكية؛ أما تحوّلها نحو ثقافة التسامح، فلا يعدو كونه جزءاً من الاستجابة الاستراتيجية للغاية، للتهديدات الجيوسياسية: مواجهة إيران، فضلاً عن الوصول إلى التكنولوجيا الإسرائيلية (ولا سيما الأساليب الرائدة التي طوّرتها الشركات الإسرائيلية الناشئة في الزراعة الصحراوية، وتحلية المياه، والتجسّس الإلكتروني)، والمشاركة في الأبحاث الطبية لمكافحة الوباء». الإمارات كما السعودية والبحرين، «ليست سوى استثمار» في «صفقة القرن»، حتى إن العتيبة نفسه كان واحداً من السفراء العرب الثلاثة الذين حضروا في البيت الأبيض، يومَ أعلن ترامب خطته في كانون الثاني/ يناير الماضي. يقول العتيبة: «لسنوات، أبدت الإمارات دعماً دؤوباً للسلام في الشرق الأوسط. لقد شجعنا التدخلات الهادفة إلى الحدّ من الصراع، وساعدنا في خلق الحوافز بسياسة الجزر بدلاً من العصي»، و«رغبنا في أن نؤمن بأن إسرائيل هي فرصة وليست عدواً»...

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا